ليس من المُفاجئ أن ترفض والدة الساروت مبلغاً مالياً جمعه بعض الناشطين لمساعدتها على إكمال حياتها، وليس مفاجئاً أيضاً طلبها بأن يُخصَّص هذا المبلغ لتزويج شبان الثورة، فهذه المرأة قادرة على فهم احتياجات الشباب أكثر من الزعماء السياسيين ومنظري الفكر والثقافة والمئات من الجمعيات الخيرية والإنسانية، وهي أيضاً قادرة على فهم المُشتركات بين بذل النفس دفاعاً عن الكرامة وتعطّش الأخيرة للحياة، فالثورة بمتناقضاتها كلًّ لا ينفصل.
اتخذتْ أم الساروت (خديجة) الملقبة أم وليد الساروت، والمفجوعة بخمس شبان غير الحارس، ومن قبلهم زوجها وأشقاؤها وبعض من أحفادها مساراً يشابه الثورة ويرقى إلى الحلم السوري الذي بدأ بجلَدِ الأمهات.
اتخذتْ أم الساروت (خديجة) الملقبة أم وليد الساروت، والمفجوعة بخمس شبان غير الحارس، ومن قبلهم زوجها وأشقاؤها وبعض من أحفادها مساراً يشابه الثورة ويرقى إلى الحلم السوري الذي بدأ بجلَدِ الأمهات، حين انتقم النظام من أطفال درعا فاعتقلهم وقتلهم وكسر أصابعهم التي خطّت أولى كلمات الحرية، فما كان من أمهاتهم إلا أن يتذرعن بالصبر ويتفقن على أن الثورة هي الولد البار وفي سبيلها كلّ كرب يهون.
ثمان سنوات انتفضت من عمر الثورة حطّت كل الشدائد أحمالها على السوريين والسوريات بعضهم بقي صامداً وآخرون جرفهم التيار فحادوا عن الطريق، لكن مساحة الأصالة ظلت ماثلة لكل من يريد الالتحاق، هذه المساحة التي يحمل وزر تضاؤلها الجميع، فعندها فقط تتلاشى الحدود والتصنيفات وتتبدّد الفوارق فيغدو الشهيد روح أمه جسدين في كيان.
أثبت رحيل عبد الباسط الساروت حارس الثورة، 8 حزيران/ يونيو 2019 رغبة الشباب السوري بمحاكاة مسيرته وتقمّص أفعاله، لكن أغلبهم لم يفعلوا مثله، ولم يتحلّوا بصدقه وصفائه فوجدوا أنفسهم بعد وفاته في عداد المتأخرين عن ركب الحقيقية، وهم يعرفون حقّ المعرفة أنهم لو تكررت بهم الظروف على الأرجح لن يفعلوا كما فعل، فالساروت حالة ليس من السهل أن تتكرّر والأم التي ربّته لا شك أيضاً أنها نادرة وعزيزة في المجتمع السوري.
توق الشباب في إكمال مسيرة الساروت وعبارات الندم التي ظهرت جليّاً في منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي إبان استشهاده تُحمّل الأمهات مسؤولية كبيرة، فالفصل بين الجنسين في قصة وفاة حارس الثورة ليس فقط غير مقبول بل إنه يبتعد عن المنطق، والأيقونة ما كان ليكون أيقونة بمعزل عن والدته التي أوحت له يوماً بأن: الشجاعة والحق هما المكسب الحقيقي في الحياة، فلا تبخل بهما عند الحاجة، وهو فعلاً ما أثبته الساروت بنبله وعدم استغلاله مكانته وموقعه لنيل مكاسب دنيوية ومادية كانت متاحة، فقد كان مصوّباً بدقة وإحكام نحو هدفه الذي ما كان ليكون هدفه لولا أنه نشأ في بيئة نظيفة تتقن إيصال الرسالة دون مناهج ونظريات، فأدواتها أبسط من ذلك وأسهل، هي نظرة لا شك أن الساروت وأخوته السابقون شاهدوها في عيون أم الوليد، فكانت بوصلتهم التي لم تنحرف.
"إن عبد الباسط لم يُدخل ليرة واحدة على بيته من أموال الثورة، وأنا لن أدخل بعده إلى بيتي شيئًا من هذه الأموال".
لم يبخل الشبان في المشهد فكانت استجابتهم تفوق التوقعات في واقع يهيمن عليه الإحباط والاعتراف المدويّ بالخسارة، بل على العكس جمعهم الساروت على الرغم من تفرقهم، ووحّدهم على الرغم من تشتتهم، فأبدوا استعدادهم لخليفته وإتمام مسيرته، ولكن الصورة كانت بحاجة لنساء مربيّات وأمهات تمنين أيضاً لو أنهن استطعن تربية نشء يقترب من الساروت، يشبهه في نبله وأصالته، نشء لا يكتفي بقول الحق بل لا يرضى إلا بصونها والدفاع عنها بكل ما أوتي من عزم.
لا شكّ أن (أم الساروت) تعيش داخل عدد من الأمهات السوريات، ولا شك أيضاً أنها قابلة للتكاثر إن توفّر لها الدعم بشقيه المادي والمعنوي، ورُفعت عنها الوصاية فأخرجت كل ما بداخلها من صدق بجموح الكرام. على قيد الأمل تُكمل أم وليد حياتها بعيداً عن ضجيج الخسائر والمكاسب، وهي مُدركة أنها على الطريق الصحيح وأنها لا تشبه إلا نفسها، وببساطة ابن القرية وفطرته السليمة تجيب على كثيرات ملوّثات يتّهمن أمثالها باللامسوؤلية ومرض عدم الاكتراث الذي يصيب أم الأبناء الكُثر، تجيبهم برحابة الموت الذي تقدّم له فلذات كبدها.
ما قالته أم الساروت عندما عُرض عليها تسلّم مبلغ 40 ألف دولار من حملة أطلقها فريق ملهم التطوعي لتعينها على نوائب الدهر: "إن عبد الباسط لم يُدخل ليرة واحدة على بيته من أموال الثورة، وأنا لن أدخل بعده إلى بيتي شيئًا من هذه الأموال".