كانت الفرنسية كاثرين مارشي-أوهيل أول من ترأس الآلية الأممية الأولى لجمع الأدلة والآلية الدولية المحايدة والمستقلة بشأن سوريا والتي شكلت في جنيف عام 2016، وبعد مرور سبع سنوات على شغلها لهذا المنصب من المقرر لها أن تتقاعد بنهاية شهر نيسان، ولهذا تحدثت عن رأيها بتلك الآلية والدروس المستفادة منها في مقابلة أجريت معها حول هذا الموضوع.
بقول كاثرين إنها ستترك منصبها لأسباب خاصة تتعلق بالتقاعد وإمضاء مزيد من الوقت بصحبة العائلة في فرنسا، وبما أنها عملت في القانون الدولي منذ عام 1998 وأمضت قبل ذلك عشر سنوات وهي تعمل في مجال القضاء في فرنسا، لهذا وصلت إلى مرحلة الاكتفاء من هذه المهنة، لكنها ستنهي حياتها المهنية بطريقة تحفيزية وملهمة بما أن عملها هي مع زملائها في الآلية المعنية بسوريا ممتع للغاية ومهم جداً.
إنجازات مهمة
وعن تلك الآلية تقول إنها حققت كثيراً من الأمور في ظل ظروف ظهرت خلالها قيود وعوائق واضحة، إذ لم يسمح للفريق بدخول سوريا، لأن النظام رفض محاولاتهم للتعامل معه عدة مرات، ما يعني بأن القيود كانت جدية، ولكن لحسن الحظ، وثقت كثير من المنظمات الجرائم المرتكبة في سوريا منذ عام 2011، وتحولت تلك الوثائق إلى مصدر أساسي لعمل فريق الآلية بطريقة جماعية شاملة وتحليلية فيها شيء كثير من الحماية، وهنالك أيضاً المجتمع المدني السوري الجسور الذي احتفظت بعض منظماته بوثائق مسربة، مثل ملفات قيصر، وكذلك وثائق حكومية، وفيديوهات سرية وتحليلات منجزة، وقد حدثت تلك الجرائم في وقت كان فيه الهاتف الذكي بيد كل شخص، حتى في سوريا، ولذلك أصبح لدى فريق الآلية وثائق كثيرة تشتمل على فيديوهات وصور نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أو حفظت على قرص صلب، ومن بين المصادر الرئيسية لدى فريق الآلية المعنية بسوريا هنالك الدول الأعضاء في الآلية والمنظمات الدولية والأممية مثل لجنة التحقيق المكلفة من قبل مجلس حقوق الإنسان اعتباراً من 2011 بتوثيق الجرائم في سوريا، وقد أصدرت عدداً من التقارير بهذا الصدد.
خصصت للآلية المعنية بسوريا ميزانية سنوية تعادل 25 مليون دولار وتشمل مساهمات تطوعية، بيد أن نتائج عمل الآلية لا يتبينها الإنسان العادي بالضرورة، ولهذا تقول مارشي-أوهيل: "من السهل تبرير هذه القيمة، إذ صحيح أن نتائج عمل الآلية لم تظهر في بداياتها، لكنها أصبحت أوضح اليوم، إذ وصلنا حتى الآن 356 طلباً للمساعدة من 16 سلطة قضائية، منها 265 عملية تحقيق منفصلة، وبعض هذه التحقيقات معقد ويأخذ وقتاً طويلاً ويحتاج لمساعدة، ولقد تمكنا من دعم 174 عملية تحقيق وذلك عبر تقديم الأدلة وإفادات الشهود الذين تعرفنا عليهم وأجرينا مقابلات معهم، إلى جانب تطوير عملية تحليل ومشاركتها مع القائمين على التحقيقات. وكمثال على ذلك أقدم عمليات تحديد مواقع الجرائم، ومشاركة تحليلات عملنا عليها وقدمناها ليس فقط لعملية تحقيق واحدة بل لندعم عدداً من عمليات التحقيق، وثمة مثال تقليدي آخر يتمثل بوحدات قياس الأدلة والإثباتات التي اشتغلنا عليها وطورناها حتى يتمكن المدعون العامون عندما يعتزمون توجيه اتهام بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا من الاعتماد على تلك الأمور حتى يؤسسوا لوجود نزاع مسلح مثلاً في سوريا.
والآن أصبحت لدينا قضايا رفعت في فرنسا وألمانيا حيث اعتمدت النيابة العامة على تلك المواد فصدرت بعض الأحكام القضائية بهذا الصدد، كما أعددنا وحدة معنية بالهجوم الممنهج لعناصر تنظيم الدولة على المدنيين، وقد اعتمدت هذه الوحدة على القضايا التي صدر بحقها حكم في السويد، كما أنها دخلت في قضية شركة لافارج بفرنسا".
مسارات التحقيق
بيد أن الإسهام المباشر في التحقيقات التي ماتزال جارية شيء آخر، خاصة فيما يخص الوضع السوري، بما أن هنالك نزاعا ممتدا لما ينته بعد، وعددا كبيرا من مرتكبي تلك الجرائم، لذا من الواضح أن القضاء الوطني وحده لن يكفي، ولهذا ستتابع الآلية ما يمليه عليها التفويض الذي أقيم ليدعم المحاكم الآن ومستقبلاً.
تعلق مارشي-أوهيل على ذلك بالقول: "لنفترض أنه خلال بضع سنوات ستقوم المحكمة الجنائية الدولية بتولي الملف السوري أو ستشكل محكمة دولية خاصة للتعامل مع الجرائم المرتكبة في سوريا، فكيف نسرع عمل المدعين العامين مستقبلاً؟ أقول هنا بإن حجم الأدلة هائل، ثم إننا أنفقنا كثيراً لجعل تلك الأدلة قابلة للبحث، كما قررنا فتح تحقيق أساسي يغطي الوضع السوري بكامله، ولكن حتى نرتب أولويات العمل، علينا أن نركز على مواضع معينة، ولهذا قررنا أن نحدد مسارات معينة للتحقيق، إذ هنالك مسار يركز على جرائم الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري، ومنظومة الاعتقال، والمداهمات غير القانونية، مع التركيز على استخدام الأسلحة الكيماوية، والهجمات التي استهدفت المرافق الطبية، وهنالك مسار ثالث يركز على الجرائم التي اقترفها عناصر من تنظيم الدولة، ولاشك أن هذه المسارات ستساعد أي مدع عام يبحث في القضية مستقبلاً".
وعندما سئلت إن كان يحبطها أمر الاعتماد على أشخاص وسلطات قضائية أخرى للبحث في تلك القضايا ردت بالقول: "كلا، لا أجد ذلك محبطاً، بل من الرائع ألا أكون محدودة بسلطة قضائية واحدة وبأن أتحول إلى ميسرة في مجال العدالة تستغل كل فرصة لتحقيقها، إذ إن مشكلة السلطات القضائية الوطنية هي عدم قدرتها على ملاحقة أهم المسؤولين عن الجرائم في معظم القضايا، ولن أكذب في هذا الصدد، بل سأقول بأني أتمنى لو كانت لدينا محكمة دولية تسعى للتوصل إلى حل شامل، بيد أن العدالة ليست مقيدة بالعدالة الجنائية، وسأعطي مثالين على ذلك، إذ هنالك المبادرة التي تقدمت بها هولندا وكندا لرفع دعوى بوجود انتهاكات وخروق لاتفاقية مناهضة التعذيب في سوريا أمام محكمة العدل الدولية، فوجدنا أنه بوسعنا مد يد العون في هذه القضية، ولكننا فكرنا إن كان ذلك سيفيد ضحايا التعذيب، أم أنهم يريدون منا أن نضع مواردنا لخدمة قضايا جنائية فحسب. وبعد التشاور مع الضحايا والناجين تبين لنا بأن ذلك يعتبر جزءاً مهماً ورمزياً من العدالة، ولهذا فإننا الآن في طور إعداد تقرير من المقرر أن يستخدم في هذه القضية وسنعلن عنه قريباً.
أما المثال الثاني فهو عن المفقودين، إذ إننا نعرف من خلال خبرتنا السابقة حجم المعلومات الكبير الذي أصبح بيد الادعاء العام، والآن أصبحت هيئات مثل الآلية الدولية على صلة بعملية البحث عن المفقودين، ولهذا فكرنا بالقيام بخطوة استباقية بدلاً من انتظار المؤسسات سنين طويلة حتى تتواصل معنا وتطلب منا الوصول إلى المحفوظات، ولهذا بدأنا في مرحلة مبكرة بتصنيف المعلومات، ومشاركتها مع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين التي وقعنا معها مذكرة تفاهم، كما أننا على استعداد لمشاركة المعلومات مع المؤسسة الأممية الجديدة المعنية بالمفقودين في سوريا والتي أصبحت في طور التأسيس بناء على مبادرة تقدم بها الضحايا والناجون".
الدروس المستفادة
وعن عملية تقييم عمل الآلية الدولية ومعايير تقييمها، حدثتنا مارشي-أوهيل فقالت: "يقوم خبير مستقل من خارج الأمم المتحدة بإجراء أول تقييم لعملنا، وقد انتهى هذا التقييم بنهاية العام الماضي، ويتم ذلك عبر التحدث إلى أشخاص من الداخل وكذلك عبر التواصل مع سلطات قضائية تتمتع بكفاءة كبيرة إثر حصولها على خدماتنا، إلى جانب التواصل مع أعضاء في المجتمع المدني وغيره، بيد أن هذا التقييم ليس متاحاً لعامة الناس، بل إنه مجرد أداة نستخدمها لتحديد المواضع التي بوسعنا أن نعمل عليها بصورة أفضل، ولنقوم باتخاذ إجراء حيال ذلك، مع دراسة هذا التقييم".
وبالحديث عن الدروس المستفادة تخبرنا مارشي-أوهيل بأن هنالك حاجة لعمل الآلية، وتقول: "في بداية عملنا كانت لدينا تساؤلات، مثل: هل ستعتمد السلطات القضائية الحالية على الأدلة التي نقدمها لها؟ وهل ستستفيد من عملنا التحليلي؟ فكان الجواب: نعم.
أما الدرس الثاني فهو: هنالك مجال لهذه الآلية حتى تتبنى نهجاً مبتكراً وشاملاً عند تعاملها مع المجتمع المدني، مع اعترافها بمكانة الضحايا والناجين، إذ إن التعامل معهم وفقاً لطريقتنا واعتبار أن لديهم القدرة والإمكانية على فعل شيء وقول شيء خارج إطار جمع الأدلة يعتبر شيئاً مبتكراً ولهذا لا بد أن نفخر به.
والدرس الثالث عبارة عن شكل آخر من أشكال الابتكار، فقد أصبحنا رواداً في مجال استخدام تقنيات إدارة المعلومات وأدواتها لدعم التحقيقات في الجرائم الأساسية.
التحديات التي تواجه الآلية
أما بالنسبة للتحديات فقد تحدثت القاضي عن قضية حماية الشهود التي تظهر على الدوام، وذلك لأن من يقرر أن يدلي بشهادته برأيها يتعرض لمشكلات أمنية، ولهذا تقول: "لقد رأينا ذلك في أوروبا خلال بعض المحاكمات، إذن فإن التحدي الذي نواجهه هنا كمؤسسة هو عدم قدرتنا على توفير الحماية للشاهد، إذ بوسعنا اتخاذ تدابير لحمايته، لكننا لا نستطيع توفير الحماية لشخص يتعرض لخطر يهدد سلامته جسدياً أو سلامة أهله، ولذلك نعتمد على تعاون الدول في هذا الصدد بيد أن هذا الأمر ليس سهلاً.
يتمثل التحدي الثاني بالموارد وهي شيء ضروري ومهم بالنسبة لنا، ولكن ليست لدينا أي ضمانة تمكننا من إضافة مزيد من الموارد للميزانية الأممية النظامية، وبعد ظهور أزمات أخرى، أصبحت سوريا تحتل مرتبة متدنية ضمن جدول أعمال بعض الدول، ولهذا قلت التبرعات الطوعية التي نحتاج إليها، وبذلك يصبح التحدي: كيف بوسعنا أن نحافظ على المستوى نفسه من العمل مع نقص الموارد؟ إننا نحاول إقناع الأمم المتحدة والجمعية العمومية بضرورة إضافة مزيد من الموارد للميزانية النظامية، بيد أن الأمر ليس سهلاً، ولهذا نحاول إقناع الدول المانحة والمساهمين المتطوعين بقبول مقترحنا، بعدما أسهموا بكم كبير من الأموال لدعم مؤسستنا، ولكن إن كانوا يرغبون بمواصلة دعمهم لنا على الوتيرة نفسها، فإن ذلك سيكون مكلفاً".
وعندما سئلت القاضي كاثرين كم ستطول مدة عمل الآلية بما أن التفويض الذي منحته لها الجمعية العمومية لم يقيدها بوقت معين، قالت: "من الصعب معرفة ذلك، ولكن بناء على تجاربي السابقة، يبدو بأن الوضع السوري يحتاج لسنوات أخرى من العمل، ورأينا من خلال ما حدث في يوغوسلافيا ورواندا بأن تلك القضايا لما تنته بعد، إذ بعد تشكيل محكمتين دوليتين، ماتزال تلك القضايا مرفوعة أمام المحاكم الوطنية، وهنا أعتقد بأن الأمور قد تتغير في حال تشكيل محكمة خاصة، لأنها ستصبح مستودعاً لكل العمل الذي أنجزناه كما أنها ستساعد المحاكم الوطنية في عملها. وفي حال عرض الملف السوري على المحكمة الجنائية الدولية، ستبقى هنالك حاجة لوجود الآلية لأن المحكمة الجنائية الدولية لن تتمكن من النظر سوى في عدد محدد من القضايا، نظراً لوجود عدد كبير من الحالات التي تبحث فيها، ولهذا أعتقد أنه من الحكمة عدم تحديد الجمعية العمومية لتاريخ انتهاء عمل الآلية".
المصدر: Justice Info