مرت خلال هذا العقد على أميركا ذكرى مثيرة للإحباط ألا وهي الذكرى المئوية لسن أول قانون أميركي للهجرة يسعى للحد من التنوع في هذه البلاد، وقد بدأ ذلك بقانون نسبة الطوارئ في عام 1921، ثم تحول الأمر إلى سياسة دائمة مع قانون النسبة الذي صدر في عام 1924، وذلك عندما قام الكونغرس بسن قوانين جعلت من المستحيل بالنسبة للمهاجرين القدوم إلى الولايات المتحدة من أي مكان غير أوروبا الغربية والشمالية، وخلال العقود الأربعة التالية، سعت تلك الجالية من المهاجرين بشكل ممنهج لإقصاء قطاع كبير من المهاجرين في العالم من تلك الجالية.
وعمليات الإقصاء الممنهجة هذه تحتم علينا أن نتذكر التنوع الذي يعتبر سمة مميزة لأميركا، مع وقوفنا ضد التمييز، وتوسيع نظرتنا للتاريخ من خلال البحث في التعدد الثقافي، وهنا وبعد الحديث عن الأميركيين المسلمين في ولاية أيوا لا بد من التطرق للجالية العربية التي سكنت سوريا الصغرى في نيويورك مطلع القرن العشرين.
المهاجرون من "سوريا العثمانية"
بدأ المهاجرون القادمون من منطقة الشرق الأوسط والتي كانت تعرف حينذاك باسم سوريا العثمانية والتي تضم سوريا التي نعرفها اليوم ولبنان والأردن وفلسطين، بالتوافد على مدينة نيويورك بأعداد كبيرة في أواخر القرن التاسع عشر، هرباً مما حدث عقب الحرب الأهلية السورية التي قامت في عام 1860 وسعياً وراء فرص للتطور على الصعيد الاقتصادي والتي ظهرت بفضل افتتاح قناة السويس في عام 1869، وهكذا شكل هؤلاء المهاجرون السوريون جماعات عرقية ودينية متمايزة، لم تشمل فقط الطائفة الدرزية، بل أيضاً المسيحيين العرب القادمين من منطقة جبل لبنان في سوريا العثمانية. وبذلك بدأت هذه الجالية المهاجرة التي تتسم بالتنوع تستقر في حي لاور مانهاتن بعدما أسست هذا الحي، وذلك لتعيش بالقرب من الجاليات الأيرلندية والسلافية والاسكندنافية، وهذا ما جعل الحي يكنى بسوريا الصغرى، حيث ظهرت هذه التسمية لأول مرة في مقالة نشرت في صحيفة نيويورك تايمز عام 1899.
ماري عزيز
لكل فرد وسليل من جالية المهاجرين السورية قصة فريدة، ولكننا سنركز هنا على مثالين يمكن اعتبارهما مصدر إلهام وهما ماري عزيز (1883-1957) والتي هاجرت من جبل لبنان إلى نيويورك عندما كانت في الثامنة من عمرها، حيث وصلت إلى هناك في عام 1891 برفقة أبويها وشقيقتها الكبرى أليس، وهناك بدأ والدها طنوس عزيز بتجارة المجوهرات وحقق نجاحاً باهراً فيها، ومن خلال الأرباح التي تدفقت عليه من تجارته استطاع تسجيل ابنتيه بجامعة واشنطن للشابات، وفيها تخرجت ماري وعمرها لم يتجاوز السابعة عشرة. في تلك الأثناء كانت ماري تعمل في مجال الصحافة لدى عدد من الدوريات العربية مثل مجلة الدائرة (1900-1901)، والتي تعتبر أول مجلة تنشر بالعربية في العالم الغربي. ثم تزوجت ماري من عيسو الخوري صاحب المجلة في عام 1902، وعند وفاته في عام 1904، ومن بعدها وفاة والدها في عام 1905، قررت ماري أن تتولى مسؤولية مشروع أبيها في مجال تجارة المجوهرات، وهكذا حققت من خلالها نجاحات باهرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين مع مواصلتها للعمل في مجال الكتابة. وفي ملف شخصي نشره مرصد العلوم المسيحية في عام 1926، وصفت ماري بأنها: "رحالة وشاعرة وفيلسوفة تضيف لكل عقد وسوار وقلادة شيئاً من التعقيد والدقة المجبولة عليهما".
مجوهرات من تصميم ماري عزيز
مجلة كوكب أميركا
كانت ماري وزوجها عيسو الخوري عضوين في مجلس تابع لجمعية الصحافة المؤثرة والتي ساهمت في وضع سوريا الصغرى والأميركيين العرب على خريطة الوطن الأميركي، كما كانت صحيفة أخرى تنشر في حي سوريا الصغرى بنيويورك واسمها كوكب أميركا وهي مجلة عربية انطلقت في 15 نيسان 1892، وتحولت إلى صحيفة يومية في عام 1898، وبقيت تنشر بصورة يومية حتى عام 1908، وقد ساهم عدد من المهاجرين السوريين بتأسيس هذه الصحيفة وبإدارة أعمالها، بينهم محررها ومديرها نجيب دياب والأخوان نجيب وإبراهيم عربيلي اللذان ينتميان لعائلة سورية أميركية عريقة، وصلت إلى الولايات المتحدة لتطلب اللجوء فيها في عام 1878 ثم استقرت في تينيسي. بعد ذلك تحول نجيب على وجه الخصوص إلى شخصية مؤثرة، حيث كان يعلم اللغة الفرنسية في كلية ماريفيل، ثم شغل منصب القنصل في القدس خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، بعد ذلك شغل منصباً مهماً لدى الحكومة ثم عمل محامياً في نيويورك خلال تسعينيات القرن التاسع عشر، وهناك أسّس جمعية الإحسان الأورثوذوكسية السورية في عام 1894، كما أسّس هو وشقيقه إبراهيم فيها صحيفة كوكب أميركا التي كانت تنضد يدوياً في مكتبها بحي سوريا الصغرى، ثم تطورت فأصبحت لها هوية تعبر عن هذا الحي وصوت مسموع في كل أرجاء أميركا.
عائلة عربيلي في عام 1890 ويظهر نجيب في الصف الأمامي في أقصى اليسار
فيليب حتي
وفقاً لما أورده المؤرخ غريغوري شبلي الذي تعقب هذا الملف بشكل مطول، تبين بأن سوريا الصغرى والجالية السورية الأميركية لم تكن محصنة ضد حالة كره الغريب التي ازدادت حدتها في أميركا أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد وصفت صحف صادرة في نيويورك، بينها صحيفة هاربرز الأسبوعية الباعةَ الجوالين السوريين العرب بـ"العرب القذرين القادمين من جبل لبنان" وحذرت من "عزم العرب السوريين القادمين من جبال لبنان على غزو الولايات المتحدة"، فكان من بين من ردوا على ذلك التمييز بشكل مؤثر وملهم البروفسور فيليب خوري حتي (1886-1978) وهو أحد المؤثرين السوريين خلال تلك الفترة، إذ بعد أن أمضى طفولته في جبل لبنان، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا، ثم بدأ عمله الأكاديمي في الجامعة الأميركية ببيروت قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة في عام 1926 ليخرج ببرنامج جديد ويترأسه في مجال الدراسات العربية بجامعة برينستون، وخلال عمله في تلك المهنة، أسهم بتأسيس هذا السلك الأكاديمي ووصوله إلى التعليم العالي في أميركا. وبالتعاون مع أصدقائه مثل المؤرخ والصحفي لويس سيمور هاوتون الذي أصدر معه سلسلة "السوريون في الولايات المتحدة" المؤلفة من أربعة أجزاء في عام 1911 وذلك أيام دراسته الثانوية، أسهم حتي بالتصدي لتلك السرديات القائمة على كراهية الغرباء مع إثباته لأهمية الوجود السوري وإرثه المهم الذي قدمه للمجتمع الأميركي.
فيليب خوري حتي
اختفى حي سوريا الصغرى بمرور الوقت وانتقل قاطنوه وأهله إلى خارجه وتوزعوا في مختلف أرجاء الولايات المتحدة، وما تزال الجهود لإحياء ذكرى هذا الحي في أذهان العامة تجري على قدم وساق، بما أن ذلك يعتبر طريقة مثالية لإحياء ذكرى هذه الجالية المهمة وللاحتفاء بشهر التراث الوطني العربي الأميركي.
المصدر: The Saturday Evening Post