أواخر الخريف في عام 1963، عاد الأب إلى البيت بعد قرابة العشرة أشهر أمضاها في بيروت. أصدر المسؤولون الجدد في دمشق عفوا خاصّا عن بعض المطلوبين وبينهم الأب. قبل ذلك بأشهر، سافرت العائلة كلّها (ما عدا الأخ الأكبر فراس والأخت المتزوجة في حماة وفي حجرها وليدها الجديد) إلى بيروت لزيارة الأب في العطلة الصيفية. كانت الرحلة طويلة، وليس يذكر الصغير منها سوى الحرّ الكريه الذي كان يكويهم في السيارة التي أقلّهما من حمص إلى طرابلس ومنها إلى بيروت، ويضاعف من الحرّ رطوبة لزجة ما كان يعهدها في حمص. قابلت العائلة الأب في شارع ما ببيروت؛ وبينما سلّم الصغير عليه بنوع من الغربة بعد غياب أربعة أشهر، قفز بشار فتعلّق برقبته، في حين عانقه سحبان عناق رجل لرجل.
كانت بيروت كريمة مع الأب. أقام فيها حتى الخريف من ذلك العام، وفتحت له الجرائد البيروتية صفحاتها ليكتب ويكسب بعض المال الذي كان يرسله لأسرته في حمص. وقد شهد الصبي بعينيه كرم المدينة حين صحبه الأب معه ذات يوم إلى مقهى "الهورس شو" في الحمرا. كان الأب محاطا بمجموعة من الرجال يتحدثون بلهجة غريبة ويخوضون في مواضيع لم يفقه الصبي منها شيئا، ولكنه شعر أن الرجال اللبنانيين الأنيقين، بسجائرهم الطويلة وقداحاتهم التي تصدر حين فتحا وحين إغلاقها صوت "كليك" قوي، كانوا يُكِنّون للوالد احتراما خاصّا، جعل الصبي يتباهى بأبيه بصمت.
ولكن الحدث الذي سيذكره الصبي عقودا وعقودا وسيحبسه في صدره ككنز عميق، الحدث الذي ربما غيّر كلّ حياته وجعله على ما هو عليه، كان في صبيحة أخرى، حين اصطحبه الأب إلى مقهى في الروشة سيأخذ الصبي وقتا لكي يتعلم لفظ اسمه "لا دولتشي فيتا". وهناك كان ثمّة ثلّة من الرجال يتحلّقون حول رجل ضخم أصلع الرأس حليق الشاربين بنظارتين مدوّرتين، يتحدّث بصوت منخفض وبلهجة سورية يعرفها الصبي.
"أهلا أبو فراس"، قال الرجل، ولحق به الآخرون وهم يفسحون في المجال لكرسيين جديدين. جلس الأب والصغير، الذي راح يحدّق في الرجل برهبة، لم يعرف سرّها.
"آخر العنقود"، سأل الرجلُ الأبَ، فأجاب الأخير مؤكّدا: "آخر العنقود".
وضع الرجل يده الكبيرة على رأس الصبي وقال: "ما شاء الله"، فسرت في جلدة رأس الصغير رعشة تشبه الكهرباء، ثم استأنف الرجال حديثهم الذي لم يفقه منه الصغير شيئا، ولكن رسخ في وعيه اسم الرجل الغريب الذي كان رفاقه ينادونه به: "خالد بيك".
حين سينفضّ الجمع ويعود الأب والصبي إلى بيتهما المستأجر في ضاحية جلّ الديب، سيسأل الصغير عن الرجل الضخم، وسيجيبه الأب: هذا خالد العظم، رئيس الوزارة قبل الانفصال. كان الصبي قد سمع باسم خالد العظم عدّة مرّات، وقرأ اسمه في جريدة أبيه، "الفجر"، ولكن لم يكن يخطر له ببال مطلقا أن يجلس على كرسي في جاوره في مقهى على البحر ببيروت، وأن يرفع الرجل يده فيضعها على رأسه، ويقول بصوت دافئ جميل: "ما شاء الله".
لن يعيش الرجل طويلا بعد لقاء الصبي به. ففي خريف 1965، سيسلم الروح، بعيدا عن بلده، وقد صادر رجال العهد الجديد بيوته وأعماله وأراضيه، تاركا خلفه زوجة ستعيش على إحسان أصدقائه القدامى حتى وفاتها.
سيكرّس الصغير حين يكبر وقتا طويلا يدرس هذا الرجل ويبحث عن السرّ الذي جعل حركة واحدة منه وجملة عارضة تترك لديه الأثر التي تركت. وسيعرف الصغير أن الرجل الذي وضع يده على رأسه كان الذي بنى أسس الاقتصاد السوري المعاصر وأصلح السياسة النقدية السورية وكان يؤمن بالديمقراطية الليبرالية إيمانا لا يتزعزع، وهو ما جعله يقف في وجه الضباط السوريين الذين تراكضوا ووراءهم السياسيون اللاهثون إلى القاهرة؛ ليطلبوا من النجم العربي الصاعد يومذاك جمال عبد الناصر أن يحكمهم، في وحدة اندماجية وحّدت الحكومتين والبرلمانين والجيشين، ولكنها لم توحّد الشعبَين. في مجلس الوزراء، وكان العظم وزيراً للدفاع والمالية، حاول أن يفند مشروع الوحدة الذي ضحّى بالتراث الديموقراطي السوري. وركّز في تحليله على نقاط ثلاث: الأولى هي نقد التحوُّل من النظام الديموقراطي لمصلحة الرئاسي، والثانية هي أن مراحل التنفيذ تختلف مع الدستور السوري نفسه، فهي ستكون بالتالي عملاً غير دستوري، والثالثة أن الشعب – وهو صاحب السلطات أصلاً – أُعطِيَ فقط صلاحية التصويت على قيام الوحدة وترشيح الرئيس، لكنه لم يُعطَ صلاحية التصويت على الدستور المؤقت لدولة الوحدة، ومن ثم الدستور الدائم.
لم يألُ العظم جهداً في بذل كل جهد ممكن للحفاظ على كيان سوريا في إطار اتحاد فيديرالي، وطالب ببقاء الأحزاب وبقاء دولة الوحدة دولة برلمانية تحدّ من صلاحيات الرئيس، على الطريقة السورية، لكن جهوده العقلانية ذهبت سدى تحت أقدام البعثيين والشعبيين والعسكر الذين طغت عواطفهم على عقلهم، كما اعترف فيما بعد الزعيم الحوراني، فارتموا في أحضان عبد الناصر، فقط لينتفضوا هم أنفسهم على نظام الوحدة، بعد 38 شهراً.
عاد الأب إذن، وقد أغلقت حكومة البعث جريدته، وكانت مطبعته غارقة في الديون، فبدأ يعمل مدرّسا للغة العربية من خارج الملاك، بأجرِ أربع ليرات للساعة. وعاد إلى قهوته المفضّلة "الفريال"، في جانب سينما "فريال" التي ستغيّر اسمها إلى سينما "الأمير". وكان الصغير ينسحب في بعض الأمسيات فيخرج من شارعه، شارع التلّة، ويسير الهوينى محاذيا السرايا، التي كان يحبّ أحيانا أن يعتلي سورها الواطئ الجميل، ليصل إلى القهوة، فيجلس بجوار أبيه ويصغي إلى الحوارات السياسية فيها. من بين جلساء الأب كان الحمصي الكبير فيضي الأتاسي، الذي كان وزيرا للخارجية، ورئيسا لتحرير جريدة السوري الجديد. وفي حين كان "الفجر" التي يحرّرها الأب تمثّل اليسار الحمصي، كانت السوري الجديد تمثّل اليمين. وكان الصغير يعرف أن أباه والأتاسي كانا خصمين في السياسة والصحافة، وأنهما كانا يتبادلان الاتهامات على صفحات جريدتيهما، ولذلك أشدّ ما كان يدهشه أن يرى إليهما جالسين على طاولة صغيرة واحدة، وكان الأتاسي يداعب الوالد فيقول له:
"ها قد رأينا حكم البعثيين. لا أرانا الله حكمكم"، في إشارة إلى توجّه والدي القريب من الشيوعيين. لم يكن الأب شيوعيا، بل كان براغماتيا في السياسة. في شبابه كان قوميا سوريا، وقد عيّنه الزعيم نفسه منفّذا لمدينة حمص، ولم يطل به المقام في الحزب القومي كثيرا، ولا يذكر الصغير ولا إخوته أبدا أن تحدّث عن الحزب ودافع عنه. في الخمسينات، انتقل إلى الفكر الاشتراكي، الذي كان صاعدا في تلك الفترة. وأسّس مع الحمصي الكبير هاني السباعي حركة "الكتلة الاشتراكية"، وخاض الانتخابات على أساسها. كان السباعي شخصية حمصية مؤثّرة، محاميا متميّزا وسياسيا بارعا، وشغل حقيبة التربية في فترة الانفصال. رآه الصغير مرّات قليلة، أثناء حملة انتخابات 1962. كان السباعي يرأس القائمة التي ترشّح الأب عليها. وذهب الولد مرّات إلى مركز الحملة وهي شقّة صغيرة وسط المدينة، ليلهو بالقصاصات الملوّنة التي حوت أسماء المرشحين، وهو ينظر بإعزاز إلى اسم أبيه وقد حلّ ثانيا في القائمة. وكان الصغير يتأمل السباعي ويلفته طربوشه الأحمر، الذي ظلّ يعتمره حتى وفاته، وقامته الطويلة وانحناءة بسيطة في ظهره. بعد ذلك، صاحبَ الأبُ الشيوعيين، وفتح لهم جريدته، حتى صاروا يحرّرون عدد الخميس من الجريدة كاملا. غير أنه لم يقتنع بالشيوعية كعقيدة ولا كمنهج في الحكم. وكان يكره الاستبداد بكلّ أشكاله، وكان الصغير يسمع منه دوما – بعد إذ كبر قليلا وصار يعي ما يسمع –كلاما يؤكّد أهمية الديمقراطية في السياسة.