"توجد وفرة من الموضوعات المثيرة من حولي وأمامي وورائي وعلى الجانبين، لوحات حياتية جاهزة يمكنها أن تصنع مجدا وثروة لعشرين جيلا من الفنانين".
لعل هذه المقولة الشهيرة للفنان الفرنسي أوجين ديلاكروا هي السبب الرئيس والمباشر لحركة الاستشراق الفني التي ظهرت في القرن التاسع عشر وذلك في خضم صعود الحركة الرومنتيكية على حساب المدرسة الكلاسيكية الجديدة، ويعود لهذا الفنان العبقري الفضل الأكبر لإعلاء شأن الرومنتيكية وحركة الاستشراق على حد سواء، ففي عبارته السابقة دعوة مباشرة للفنانين الغربيين للتوجه إلى بلاد المغرب العربي والشرق عموما، وإشارة واضحة لغنى هذه البلاد بكل ما يحتاجه الفنان الذي يريد الانعتاق من صلف المدرسة الكلاسيكية وقواعدها الصارمة، هناك حيث الشمس الدافئة الساطعة والألوان المشرقة والمبهجة وعالم الروح والعاطفة. هذه العوامل الرئيسية التي هي جوهر الحركة الرومنتيكية في حقيقة الأمر، هذه الحركة التي مهدت الطريق لكل ما تبعها من مدارس فنية حديثة.
وعن أثر رحلته إلى الجزائر والمغرب على تطور مسيرته الفنية يقول: "لم أبدأ في عمل أي شيء يتمتع بالأهمية إلا بعد زيارتي لشمال إفريقية، ومن اللحظة التي نسيت فيها التفاصيل الصغيرة ولم أعد أتذكر إلا الجانب الشاعري المتميز في لوحاتي، حتى ذلك الوقت كنت مهتما بالدقة تلك التي يعتبرها عدد كبير من الناس الحقيقة بعينها"، ومن خلال هذه العبارة نلاحظ مدى تأثر ديلاكروا برحلته إلى الشرق حيث أن الجانب الشاعري في أعماله طغى على الدقة والتفاصيل التي تعلمها في الأكاديمية وأصبح له الأولوية، فانعكست هذه الشاعرية الفنية على أعماله بشكل واضح حيث أصبحت الألوان أكثر إشراقا والتكوينات أكثر حيوية، كل ذلك كان خاضع لرغبة داخلية عند هذا الفنان للدمج بين الواقع المادي الخارجي وبين عالم داخلي ذاتي كان يبرزه من خلال شخوصه وموضوعاته التي تناولها في أعماله، حيث صور حياة الناس في الشرق الذي عشقه وافتتن به بكل ما فيها من جمال وبساطة وعاطفة فطرية خالصة، ومن خلال أعماله تلك قدم لأوربا مفهوما جديدا كليا عن الفن، فبدأ الفنانون يرون في فنون الشرق حيوية وحياة لا يرونها في فنهم، فجسدت حياة الشرق كل ما كان يحلم به الفنانون من فن يعتمد الخيال بدل المحاكاة.
لمحة عن حياته وفنه
فيرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا (1798 – 1863)، ابن لسياسي فرنسي كان له دور بارز في الثورة الفرنسية، اسمه شارل ديلاكروا وأصبح وزيرا للخارجية، وهو من عائلة برجوازية عريقة حرصت على تنشئة أوجين وتثقيفه بالشكل اللائق فألحقته بأرقى المدارس والمعاهد وكان للأدب والموسيقى الحيز الكبير من الاهتمام.
بدأ دراسته للفن بمرسم الفنان بول جيرين عام 1816 ثم أصبح تلميذا للفنان جيريكو صاحب لوحة غرق الميدوزا الشهيرة والتي تعتبر باكورة أعمال المدرسة الرومنتيكية، وفي بداية حياته الفنية قام بنسخ العديد من الأعمال الكلاسيكية لكبار الفنانين أمثال رفائيل وروبنز وغيرهما، وكان لهذا النشاط أثر كبير على دعم موهبة الفنان وترسيخ المفاهيم الأكاديمية التي كانت مسيطرة على الساحة الفنية في ذلك الوقت والتي سيتمرد عليها لاحقا.
تأثر كثيرا بأعمال الفنان الإنكليزي كونستابل وذهب إلى إنكلترا ليطلع على أعماله عن كثب حيث أنه كان يفضل الخروج من مرسمه ليرسم من الطبيعة بشكل مباشر وهذا أدى بطبيعة الحال إلى معالجة لونية أكثر إشراقا، وبهذا عبر كونستابل عن بداية التحول من الفن كلاسيكي بمواضيعه التقليدية إلى الفن التجريبي الحر بمواضيعه المستقاة من الطبيعة بشكل مباشر ولعل هذا أكثر ما أثار ديلاكروا.
كانت أعمال ديلاكروا الأولى مستندة إلى موضوعات تقليدية بعض الشيء مستقاة من شعر بايرن أو من القصص التاريخية وهي لم تكن ثائرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن ما لبثت حركة التشكيلات والألوان حتى بدأت بالتحرر تدريجيا لتأخذ أهميتها الخاصة والمميزة لأعماله، وكانت الخطوة الأبعد والأهم في تجربة هذا الفنان هي زيارته لشمال إفريقيا عام 1832 ، فبدأت الصياغات تأخذ شكلا أكثر حيوية وبدت الألوان أكثر إشراقا وكان لها الدور الأهم في العمل الفني فبدأ بذلك مرحلة جديدة كليا تجاوزت كل ما سبقها من تجارب، فأسس بذلك فنا رائدا في التشكيل الحديث، بل تعدى تأثيره إلى بقية الفنون من شعر وأدب وموسيقى وكان الشاعر الشهير بودلير أكثر من تأثر وأعجب بفن ديلاكروا.
في الحقيقة يمكن لأي متتبع لأعمال هذا الفنان ملاحظة تطور أسلوبه من خلال مقارنتها ببعضها حسب تسلسلها الزمني، فمقارنة لوحة دانتي وفرجيل في الجحيم التي رسمها عام 1922 ومذبحة ساقز التي رسمها عام 1827 ولوحة الحرية تقود الشعب التي رسمها عام 1830 بأعماله الأخرى مثل لوحته الشهيرة نساء جزائريات التي رسمها عام 1833، تؤكد على التغير والنضج الكبير الذي طرأ على فنه بعد زيارته لشمال إفريقية، وإذا أردنا توصيف أسلوب هذا الفنان فيمكننا القول بأنه محاولة تجاوز الواقع لحساب الخيال وتجاوز المادة لحساب الروح وتجاوز الخطوط لحساب اللون، وبذلك يكون قد حرر اللوحة من الواقع لتصبح تعبيرا عن الانفعالات والعواطف الذاتية للفنان، وفي ذلك يقول بودلير: "إن اللون عند ديلاكروا يفكر بذاته مستقلا عن الأشياء التي يكسوها" ويقول أيضا: "إن ديلاكروا يجعل الخطوط والألوان تتحرر من الأشكال والموضوعات".
مفهوم الفن عند ديلاكروا
ترك لنا الفنان مذكرات شخصية تعتبر مصدرا غنيا لآرائه عن الفن والحياة وتلقي الضوء على أهم أحداث عصره السياسية والاجتماعية والتي أثرت على تجربته الفنية، وعلى الرغم من أن نقاد الفن التشكيلي الحديث يعتبرونه زعيم الحركة الرومنتيكية إلا أنه كان لا يحب أن يصنف تحت أي مدرسة فنية مهما كانت فهو يعلن بأكثر من مناسبة نفوره من أي أكاديمية حتى لو كانت الرومنتيكية، ويرى أن الحرية في التعبير هي جوهر الفن ويعلي من أهمية الخيال في تكوين العمل الفني، وفي هذا يقول الناقد هربرت ريد: "حين يصل إلى اللوحة النهائية كان يرمي بكل الدراسات التمهيدية جانبا لأنه يرسم مباشرة من الخيال ومن خياله فقط"، وهنا لابد من الإشارة إلى أن ديلاكروا لم يلغي الواقع بالمطلق لحساب الخيال وإنما كان يعتبره مجرد نقطة ارتكاز يستند عليها الفنان لا أكثر، فكان يرفض أن يكون العمل الفني مجرد نقل حرفي عن الطبيعة وأن تقيد الرسام بالتخطيط المسبق يعيق عملية الإبداع ويحد من حرية الفنان، فالواقع بالنسبة له هو مجرد محرض لخياله ومحركا له وفي هذا يقول: "إن الطبيعة معجم نبحث فيه عن المعنى الصحيح للكلمة وتهجئتها ونرجع إليها من أجل درجة الإضاءة الصحيحة والشكل المحدد كما نرجع للمعجم من أجل فهم المعنى الصحيح للكلمة وتهجئتها والتأكد من أصلها، ولكننا لا نعتبر المعجم نصا أدبيا مثاليا يجب علينا نسخه بل يجب علينا أن نكف عن اعتبار الطبيعة نموذجا يجب تقليده، إن المصور الزيتي يرجع للطبيعة لتقترح عليه الأفكار الأساسية لكن التناسق الذي يبنيه على هذه الأفكار هو من صنع خياله فقط".
فكان يكره الدقة الحرفية والعناية بالتفاصيل الغير مهمة على عكس ما كان عليه في بداياته، فأصبح يركز على الانطباع العام للعمل الفني وأصبحت فرشاته تتحرك بحرية أكبر على مساحة اللوحة وبحيوية ملفتة متجاوزة أحيانا إطار الشكل المحدد لها وهذا كان يساعده على ابراز مشاعره وعواطفه الخاصة من خلال شخوصه وموضوعاته التي يتناولها.
يقول بودلير في وصف أعمال ديلاكروا: "بشكل عام لا يصور ديلاكروا نساء جميلات من وجهة نظر الناس العاديين على الأقل، وإن بطلات ديلاكروا تقريبا يجدر وصفهن بالعليلات السقيمات المصدورات، لكنهن يشععن بنوع من الجمال الداخلي لا يدانيه جمال آخر صارخ، و ديلاكروا لا يعبر عن القوة من خلال رسم العضلات أو الأنوثة الطاغية بل عن طريق ما تتركه رسومه من زخم فريد يلهب الأعصاب يصحبه الألم المعنوي الروحي، ومن هنا لابد أن نلاحظ كيف أن الكآبة القصوى تبرق لديه في الألوان في الكتل اللونية الفسيحة الكثيفة كما هي عند الرسامين العظام لكنها أيضا تبدو شاكية وعميقة كما في ألحان الموسيقار فيير".
وبالفعل فإننا نشعر بأنه يرسم باللون مباشرة في أعماله الأخيرة وقد تحرر تماما من كل قيود الأكاديمية التي لم يسلم من تقريظها ونقدها اللاذع في بداية تحوله عنها، ولكنه لم يكن يعبأ بكل ذلك فقد كانت رؤيته الفنية واضحة بالنسبة له وثقته بأفكاره وموهبته لا تتأثر بكلام النقاد وغيرهم، وخاصة بعد زيارته للمغرب والجزائر هذه الزيارة التي بلورت شخصيته الفنية وأنضجت تجربته التشكيلية حيث وجد هناك ضالته في البحث عن صياغات جديدة للعمل الفني وأسلوبا جديدا للتعبير، وقد أسهمت ثقافته الفنية الواسعة في إعادة توجيه نظرته للحياة في الشرق، فنجده يكتب في مذكراته: "لقد رأيت مشهد الخيول المتصارعة، إنني على يقين من ذلك، كل ما أمكن وكل مالم يحلم به روبنز من روعة وخفة وجلال أجده هنا من حولي بكثافة، إنه بلد الزخم الفني الأصيل". ويقول أيضا واصفا حاله عند تجوله بأحد أسواق طنجة: "أنا الآن مثل امرئ يحلم ويرى أشياء يخاف أن تفلت من بين يديه".
رسم أكثر من ثمانين عملا فنيا بعد زيارته لشمال أفريقيا تعتبر من روائع الفن التشكيلي الحديث وقد كان مولعا برسم الأحصنة العربية الجامحة في كل حالاتها، إن تجربة هذا الفنان العظيم ورؤيته الفريدة لمفهوم الفن من خلال إعلاء شأن التجربة الفردية والذاتية للفنان والحرية الكاملة في الرسم مع جموح العاطفة والخيال كان لها كبير الأثر في ثورة الفن التشكيلي الحديث وتفجر المدارس الفنية العديدة لاحقا والتي يمتد تأثيرها على الفن التشكيلي في كل مكان حتى يومنا هذا.