سيبقى الاحتفاظ بعبارة "حق الرد"، لازمة، فهي الأكثر تردداً وتداولاً بين القيادتين السورية والإيرانية، بعد الضربات العسكرية المتتالية التي قامت بها تل أبيب، واغتالت فيها شخصيات قيادية وازنة ومؤثِّرة في مسرح العمليات المقاومة ضد إسرائيل، في حين تحاول القيادة العسكرية الإسرائيلية وحكومتها اليمينية المتطرفة، انتزاع نصرٍ على الأرض، في ظلِّ تراجع موقف حكومة نتنياهو أمام المعارضة في تل أبيب بحسب المراقبين، فنحن أمام نهج لدول استبدادية بوجهٍ قوميٍّ لا تعتاش إلاَّ على خطاب المؤامرات الكونية عليها في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني، ونهج لكيان يقوم على أرض فلسطين لا يستكين إلاَّ على الدم وافتعال الحروب من أجل بقائه وديمومته.
وأمام الخسائر الكبيرة للضربات الإسرائيلية، تأمَّل السوريون عميقاً في ردِّ وزارة الخارجية في دمشق بإدانة الهجوم، ومطالبة دول العالم الوقوف في وجه تل أبيب، ودعوة مجلس الأمن إلى تحمُّل مسؤولياته في الحفاظ على الأمن والسِّلم الدوليين، في الوقت الذي بات الكل يعلم علم اليقين بعدم إقدام إيران أو سوريا على الرد بالمِثل، لانتهاكات سيادة الأراضي السورية، وبحسب مجريات الأحداث فإن عدم الرد، يأتي دوما لمنع الدخول في حرب إقليمية واسعة، وهو ما وُصِف بأدبياتهم "بالصبر الاستراتيجي".
التزام النظام السوري في هذه الاستراتيجية لم يأتِ من فراغ، فما زال يعاني من حروب مفتوحة في الشمال وشرق البلاد، والنزاع مع فصائل المعارضة، والخوف من نيَّة الفصائل الكردية الانفصال لتحقيق الفيدرالية، وكذلك وجود جيوش أجنبية تدعم خيار قسد أبرزها الولايات المتحدة.
ما بات واضحاً، أنَّ أبْعاد هذا القصف، جاء نتيجة لعدم حسم المعركة في غزة، وعدم تحقيق أي انتصار فيها، ولهذا تسْعى إسرائيل إلى توسيع نطاق الصراع في المنطق
إزاء هذا التطور الجديد في قواعد الاشتباك تبقى كل السيناريوهات مفتوحة، بعد أن طالت الهجمات الإسرائيلية المتكرِّرة لسنوات طويلة مواقع للحرس الثوري في الشمال والشرق والجنوب السوري وميناء اللاذقية، ضربات كانت وكأنها تشير إلى التهديد الإيراني الذي تعتبره قريباً جداً من حدودها، في وقت تكثَّفت أكثر ضربات الطائرات الإسرائيلية بشكل لافت، بعد حرب غزة وعملية طوفان الأقصى.
وما بات واضحاً، أنَّ أبْعاد هذا القصف، جاء نتيجة لعدم حسم المعركة في غزة، وعدم تحقيق أي انتصار فيها، ولهذا تسْعى إسرائيل إلى توسيع نطاق الصراع في المنطقة، ليضم معه جبهة الجنوب السوري، وهي المرشحة لاندلاع المعارك وتوسيع دائرة الصراع، لكن هذا لن يحدث، إلاَّ بتنسيق مع روسيا، التي ما زالت تراقب تطورات المشهد في المنطقة بعين المصالح الإقليمية، والقُدرة على إعادة ترتيب الأوراق، مع أخذها في الاعتبار الحرب الأوكرانية، والدفع نحو إقحام الأميركي بوحْل الصراعات في المنطقة العربية أكثر. وبناء عليه، لن يحدث أي صراع مباشر بين دمشق وتل أبيب إلاَّ بدعم من موسكو، خصوصاً في ظلِّ تراجع العلاقات الروسية الإسرائيلية بشكل واسع بعد مساندة تل أبيب لكييف، بل وإمدادها بالأسلحة المناسبة المضادة للدروع وللسفن الحربية، في وقت أرسلت طهران طائرات مسيرة لموسكو.
في المقلب الآخر، لم تدخل الكيمياء السياسية ولا مرة بين أيٍّ من قادة الإدارة الأميركية مع نتنياهو، وهذا بحسب ما كشفه أحد أكثر المسؤولين الأميركيين انخراطاً في المفاوضات بين العرب وإسرائيل "دنيس روس"، الذي وصف أول زيارة لنتنياهو إلى واشنطن بعد ترؤسه للحكومة، بأنه "لا يُطاق" وهو "يحاضر فينا ويلَقننا كيف ينبغي التعاطي مع العرب، وبأنه يظن نفسه القوة العظمى ونحن طوع بنانه"، بحسب تعبيره.
كل رؤساء أميركا يقولون في مجالسهم الخاصة إن اليهود هم شخصيات عدوانية وعنيفة وبغيضة، وواشنطن تدعمهم بسبب المحرقة النازية وديمقراطية دولتهم، وكِلا السببين اليوم باتا مكشوفين أمام العالم بعد حرب غزة، والإبادة الممنهجة بحق شعب فلسطين، فإذا سلَّمنا بشكوك كبيرة بمسألة ديمقراطية الكيان الصهيوني، فالعالم أمام مأزق وجودي لدولة تستمر بشنِّ الحروب لأكثر من 70 عاماً على العرب، وكلما هُزِمت أو اختلَّ ميزانها العسكري، تَعتَبر أنها قادرة على تصحيحه، كما حصل عام 1973، وبعد عملية طوفان الأقصى، ولذلك ليست من المصادفة أن يكون معظم رؤسائها ورؤساء وزرائها قد أتوا من المدرسة العسكرية، ولم يتحقق بعد أي انتصار عسكري لها عربياً وإسلامياً حاسماً، وفي أحسن الأحوال يُنظَر إلى تل أبيب على أنها دولة أمر واقع لا أكثر، لكن لا يوجد واقع لا يتغيَّر مهما عَظُمَت قوته، فالحرب قضية خطرة جداً لا يجب أن يتَّخذ القرار فيها العسكر، ولا يبدو أن هذا الأمر هو المعمول به في إسرائيل، فهي ليست إلا جيش يملك دولة.
دولة الاستبداد الدائمة في سوريا، طالما بقيت بسبب العوامل الخارجية وحواملها المعرفية وخطاباتها التحريرية، واللَّعب على المتناقضات المحلية، وتقسيم المجتمع السوري وشطره أفقياً وعامودياً، في توزيع الولاءات المحلية كمافيات صغيرة تساعد الجهاز الأمني المتضخم في تسيير الحكم، وتقوم بتصدير أزماته إلى الخارج وكَيِّ الوعْي لدى جمهور الناس، بضرورة حشد الطاقات في مواجهة العدو الإسرائيلي والمشروع الأميركي، في حين أنه يدين بولائه وبقائه إلى هذا الأميركي، الذي يتحيَّن الفرص اليوم وفق تقاطعات إقليمية لإيجاد وطرح البديل، وطالما أنَّ الطريق مسدود، فهذه أفضل السُّبل لبقاء نظام مترهِّلاً ومتفسِّخاً وغير قابل للحياة، وهي طريقة عمل وأسلوب واشنطن في الحياة أصلاً.
طرحت الاستهدافات الإسرائيلية سؤالاً جوهرياً حول طبيعة التنسيق بين القوات الإيرانية مع القوات الروسية على الساحة السورية، وغياب التنسيق الذي كان قائماً ومعمولاً به بين موسكو وتل أبيب
بالمقابل دولة الحروب الدائمة إسرائيل القائمة على القضم والتشبيح وسرقة أراضي الشعوب في فلسطين وعند العرب، طالما استمدَّت ديمومتها وبقاءها من المتناقضات الداخلية والمحلية بتسعير الخطاب الفئوي وتعزيز اليمين المتطرف، الذي صار وُجْهة وقِبْلة الشعب الإسرائيلي عند كل استحقاق انتخابي، ومن قوة الغرب بشِقِّيه الأوروبي والأميركي، كحاجة وقاعدة عسكرية متقدمة له في المشرق العربي، الذي يعيش اليوم على فوَّهة بركان، وزاد من أهميته عملية عسكرة البحر الأحمر وإمدادات الطاقة، ممَّا استنفر القوة الأميركية من جديد، بعد أن خفَّ وهْجها، وصارت أكثر استشراساً وعُنفاً في الحفاظ على المكتسبات الجيوسياسية، والتي لا بدَّ أن يُسلِّم بها الروسي والصيني، رغم المتناقضات التي يعيشها نتنياهو مع حكومته ومع الإدارة الأميركية.
ولذلك طرحت الاستهدافات الإسرائيلية سؤالاً جوهرياً حول طبيعة التنسيق بين القوات الإيرانية مع القوات الروسية على الساحة السورية، وغياب التنسيق الذي كان قائماً ومعمولاً به بين موسكو وتل أبيب، والذي يفرض على الإسرائيليين إبلاغ الروس بأية عملية استهداف أو غارة جوية قبل حصولها ولو بدقائق، وبالتالي يبدو أنَّ هناك حالة من التراخي الروسي، طالما أنَّ الاستهدافات الإسرائيلية تصُبُّ ضدَّ الوجود الإيراني وحلفائه من لبنانيين وعراقيين، في سياق التنافس على مرجعية القرار على الساحة السورية وعلاقته بالنظام في دمشق.
أخيراً، يبدو أن القيادة العسكرية والأمنية الإسرائيلية اتخذت قرارها، بتصفية كل مصادر الخطر والتهديد والقضاء عليها، من دون الأخذ بالاعتبار حجم التداعيات لهذه العمليات الأمنية، لتبقى الرسالة الأهم، ولتقول للجانب الإيراني، الذي يتحمَّل مسؤولية دعم الفصائل والقوى التي تخوض الحرب مع تل أبيب من دون تحمُّل تبعاتها، إنه لن يبقى خارج دائرة الردِّ والاستهداف الإسرائيلي، خصوصاً بعد التصعيد الذي يشهده البحر الأحمر ومضيق باب المندب من قبل حليف طهران الحوثي، وحجم الأضرار الاقتصادية التي تلحق به من جراء محاولة فرض الحصار البحري عليه، وبأن تل أبيب لن تسمح له بالنصر، عند إعلان وقف إطلاق النار والانتقال إلى مسار الحلول السياسية في الإقليم وهي بعيدة وشبه معدومة، حتى لو صرح وكشف الأميركي أن واشنطن ستنسحب من العراق أو سوريا، فهذا لأهداف انتخابية بحْتة، حيث يكمن الخوف كل الخوف، في نجاح ترامب ووصوله البيت الأبيض، محمَّلاً بتورمات انتقامية لتصفية حساباته الداخلية، والانتقال إلى تدعيم تل أبيب أكثر وشنِّ الهجمات العسكرية عبر البحار وخطوط الإمداد العالمي، وساعتها لن يكون لأيِ انتصار أيّ معنى في فلسطين أو غزة، طالما بقيت هذه النظم الاستبدادية تتخادم مع الغرب والكيان الصهيوني في حبك المؤامرات المكشوفة.