عبر احتكار توريد اللقاحات المضادة لكوفيد-19، تهدد الدول الثرية بكارثة أكبر من مجرد كارثة إنسانية، ألا وهي الدمار الاقتصادي المترتب على ذلك والذي ستعاني منه الدول الغنية تماماً كما ستعاني البلدان النامية.
تلك هي الصيغة الجاهزة الحاسمة التي توصلت إليها دراسة أكاديمية نشرت يوم الإثنين الماضي، ففي أسوأ الحالات، أي عندما يتم تطعيم الدول الغنية بالكامل بحلول منتصف هذا العام، مع تعرض الدول الفقيرة لحالة الإغلاق، توصلت تلك الدراسة إلى أن الاقتصاد العالمي لابد وأن يعاني حينها من خسائر تتجاوز 9 تريليونات دولار أميركي، وهو مبلغ يتجاوز قيمة الإنتاج السنوي لليابان وألمانيا مجتمعتين.
ونصف تلك التكاليف تقريباً ستتكبدها الدول الثرية مثل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا.
اقرأ أيضا: تركيا تتسلم 6.5 ملايين جرعة لقاح كورونا يوم الإثنين
أما بالنسبة للحالة التي يرجح الباحثون احتمال وقوعها أكثر من غيرها، وذلك عندما يتم تطعيم نصف سكان الدول النامية بحلول نهاية هذا العام، عندها لابد وأن يتلقى اقتصاد العالم ضربة قوية تتراوح ما بين 1.8-3.8 تريليونات دولار، وأكثر من نصف تلك المعاناة ستكون من نصيب الدول الغنية.
وقد خلصت تلك الدراسة التي أجريت بتكليف من غرفة التجارة الدولية إلى أن التوزيع العادل للقاحات يصب في مصلحة كل الدول من الناحية الاقتصادية، لاسيما تلك الدول التي تعتمد بشكل كبير على التجارة. وفي ذلك ما يرقى إلى توبيخ وتقريع للفكرة السائدة التي ترى بأن توزيع اللقاحات على الدول الفقيرة هو مجرد شكل من أشكال الصدقة.
وحول ذلك تخبرنا سيلفا ديميرالب وهي خبيرة اقتصادية في جامعة كوج بإسطنبول سبق لها وأن عملت لدى الاحتياطي الفيدرالي بواشنطن، وهي أحد من شاركوا بكتابة هذه الدراسة فتقول: "من الواضح أن كل اقتصادات الدول مرتبطة ببعضها، ولن يتعافى أي اقتصاد أو ينتعش تماماً دون انتعاش اقتصاد بقية الدول".
وأشارت السيدة ديميرالب إلى أن المبادرة الخيرية العالمية التي تعرف باسم ACT Accelerator والتي تهدف إلى تقديم الموارد للدول النامية خلال فترة تفشي الجائحة، قد حصلت على التزامات وتعهدات وصلت قيمتها إلى 11 مليار دولار، أي أنها لم تحقق الهدف وهو 38 مليار دولار. بيد أن هذه الدراسة حددت الأساس المنطقي الاقتصادي لسد ذلك النقص، إذ قد يبدو المبلغ المتبقي الذي يعادل 27 مليار دولار ضخماً للغاية، ولكنه زهيد عند مقارنته بالتكاليف التي ستترتب على استمرار تفشي الجائحة.
كما عززت الفكرة السائدة التي ترى بأن الجائحة لا تحترم الحدود ولا التقسيمات العرقية ولا الطبقية على يد الرؤساء التنفيذيين والخبراء العاملين في الشركات، غير أن هذه الفكرة المريحة تكذبها الحقيقة القائلة بإن كوفيد-19 قد أطلق يد الموت وتدمير سبل العيش ضمن أوساط العاملين في مجال الخدمات التي لا توفر سوى أجور زهيدة، لاسيما ضمن أوساط الأقليات العرقية، في حين تمكن الموظفون في المستويات الرفيعة من العمل بشكل آمن من البيت، كما يقوم بعض أثرياء العالم بالتغلب على الوباء عبر ركوب اليخوت وزيارة الجزر الخاصة بهم.
اقرأ أيضا: كورونا.. تراجع عدد الإصابات شمال غربي سوريا
ولكن في مجال التجارة العالمية، لا مفر من فيروس كورونا، كما برهنت الدراسة، إذ هنالك سلاسل توريد عالمية تنتج أجزاء خاصة بصناعات معينة، ولهذا سيتواصل انقطاع تلك المجالات والسلاسل مع بقاء الفيروس كقوة تهدد الحياة.
ولهذا قام فريق من الباحثين الاقتصاديين من جامعة كوج وهارفارد وميريلاند بدراسة البيانات التجارية لـ35 صناعة في 65 دولة، ليتوصلوا إلى بحث موسع حول الآثار الاقتصادية التي ستترتب على عدم توزيع اللقاح بشكل عادل.
إذ في حال بقاء سكان الدول النامية خارج نطاق العمل بسبب حالة الاغلاق اللازمة لمنع انتشار الفيروس، سيقل المال بين أيديهم، مما سيقلص من حجم المبيعات بالنسبة للدول المصدرة في أميركا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا. كما ستعاني الشركات متعددة الجنسيات في الدول المتقدمة أثناء سعيها لتأمين القطع والعناصر والسلع اللازمة.
وفي قلب هذه القصة تظهر الحقيقة المتمثلة بأن معظم التجارة الدولية لا تقوم على سلع مصنعة كاملة، بل على أجزاء يتم شحنها من بلد إلى آخر حتى تتحول إلى منتجات تامة الصنع. فمن بين السلع التي تمت المتاجرة بها خلال السنة الماضية وبلغت قيمتها 18 تريليون دولار، هنالك سلع وسيطة تبلغ قيمتها 11 تريليون دولار وذلك بحسب ما أوردته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
اقرأ أيضا: مسؤول لبناني يلمح إلى ضرورة تلقيح اللاجئين السوريين
وقد وجدت تلك الدراسة بأن استمرار الجائحة في الدول الفقيرة من المحتمل أن يمثل العنصر الأسوأ الذي سيضرب الصناعات التي تعتمد بصورة خاصة على الموردين في مختلف بقاع العالم، وعلى رأسها صناعة السيارات، والنسيج، والبناء، والتجزئة، إذ يمكن أن تنخفض هذه المبيعات لما دون 5%.
وهكذا تضيف نتائج الدراسة مستوى أكثر تعقيداً للفرضية الأساسية القائلة بأن الجائحة ستترك اقتصاد العالم أكثر إجحافاً وأقل عدالة مما كان عليه من قبل، إذ في الوقت الذي تبدو فيه تلك الفرضية صحيحة، يمكن أن يتسبب شكل صارخ من أشكال الإجحاف والجور، ألا وهو الحصول على اللقاح، بوقوع مشكلات عامة على المستوى العالمي.
ففي توصية استثنائية للقدرات الابتكارية لدى العلماء الأكثر براعة ومهارة في هذا العالم، أنتجت بعض الشركات الصيدلانية الرائدة لقاحاً لإنقاذ حياة البشر خلال فترة زمنية قصيرة اعتقد العلماء خلالها أن هذا الأمر ممكن الحدوث. غير أن الدول الثرية في أميركا الشمالية وأوروبا أغلقت الباب على طلب توريد المزيد من تلك اللقاحات، والتي تكفي لتطعيم شعوبها مرتين إلى ثلاثة مرات، تاركة البلدان الفقيرة في حيص بيص بالنسبة لتأمين حصتها من اللقاحات.
أي أنه يتعين على الكثير من الدول النامية بدءاً ببنغلاديش مروراً بتنزانيا وصولاً إلى البيرو، أن تنتظر دورها حتى عام 2024 قبل أن يحصل كامل السكان فيها على التطعيم.
غير أن المبادرة الساعية لتأمين المزيد من الموارد للدول الفقيرة قد تم تعزيزها بمجرد وصول الرئيس بايدن إلى السلطة، وذلك لأن إدارة ترامب لم تساهم في دعم تلك القضية. في حين أعلن على الفور كبير المسؤولين عن القطاع الصحي بالنسبة للجائحة لدى السيد بايدن، وهو الدكتور أنطوني إس. فاوسي بأن الولايات المتحدة ستنضم للحملة التي تسعى لتوزيع اللقاح.
وبخلاف تريليونات الدولارات التي أنفقتها حكومات الدول الغنية على إنقاذ الشركات والعمال المتضررين بسبب تلك الحالة الصحية الطارئة، والانكماش الاقتصادي الموجع، عانت الدول النامية وهي تسعى لتقديم الاستجابة لشعوبها.
فقد خسر العمال المهاجرون من الدول الفقيرة وظائفهم خلال فترة تفشي الجائحة، ولم يعد بوسعهم إرسال الأموال إلى بلدانهم، وهذا بحد ذاته يعتبر ضربة قوية لتلك الدول التي تعتمد على ما يعرف باسم التحويلات المالية، وعلى رأس تلك الدول تأتي الفلبين وباكستان وبنغلاديش.
كما أن حالة الركود العالمية أضعفت الطلب على السلع، ما أصاب الدول المنتجة للنحاس مثل زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية بدمار هائل، وكذلك الأمر بالنسبة للدول التي تعتمد على النفط مثل أنغولا ونيجيريا. ومع ازدياد حالات الإصابة بكوفيد-19، تراجعت السياحة، ما أدى إلى انحسار في الوظائف والعوائد في كل من تايلاند وأندونيسيا والمغرب.
اقرأ أيضا: تركيا تبدأ تطعيم من يتجاوزون الـ 85 عاماً بلقاح كورونا
ثم إن الكثير من الدول الفقيرة دخلت مرحلة الجائحة وهي مثقلة بالديون التي تستهلك قسماً كبيراً من عوائدها، الأمر الذي حد من قدرتها على الإنفاق في مجال الرعاية الصحية. كما رفض الدائنون في القطاع الخاص المشاركة ببرنامج متواضع لتجميد الديون الذي أطلقته مجموعة العشرين، في حين تعهد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتقديم إغاثة كبرى لتلك الدول، لكنهما لم يتمكنا من تأمين مبالغ كبيرة بالدولار الأميركي.
إلا أن هذا الوضع قد تغير مع وصول قيادة جديدة إلى واشنطن، فقد وقفت إدارة ترامب في وجه توسيع مقترح قيمته 500 مليار دولار لما يعرف بحقوق السحب الخاصة لدى صندوق النقد الدولي، إذ يمثل ذلك أصولاً احتياطية يمكن للحكومات أن تبادلها بالعملة الصعبة. غير أن صعود السيد بايدن ووصوله إلى السلطة قد بعث الأمل من جديد في نفوس الدول الأعضاء في ذلك الصندوق بما أن إدارته يمكن أن تدعم عملية التوسع هذه، خاصة بعدما ألمح الديمقراطيون في الكونغرس الذين باتوا اليوم يسيطرون على كلا الهيئتين، بأن بلادهم على استعداد لتقديم الدعم لإجراء يمكن أن يجبر وزارة الخزانة على التصرف حيال ذلك.
هذا وما يزال النقاش حول دعم دول العالم النامية مؤطراً ضمن مصطلحات أخلاقية في عواصم مثل واشنطن وبروكسل. فقد تناقش القادة عن كم الأموال التي يمكنهم أن يخصصوها لمساعدة المجتمعات الأقل حظاً على هذا الكوكب، مع توجيه جل اهتمامها نحو شعوبها.
اقرأ أيضا: إصابة عدد من الأسرى في السجون الإسرائيلية بفيروس كورونا
بيد أن هذه الدراسة تتحدى ذلك الإطار، وذلك لأن الفشل في ضمان حصول شعوب دول العالم النامية على اللقاح يعني أن قادة الدول الغنية يسعون لتدمير ثروات بلادهم.
وعن ذلك يقول السيد جون دينتون الأمين العام لغرفة التجارة الدولية: "ليس ثمة اقتصاد محصن من آثار الفيروس مهما بلغ حجمه، إلى أن تنتهي الجائحة في كل مكان. وهذا يعني أن شراء اللقاحات وتقديمها لدول العالم النامية ليس بمجرد عمل ينطوي على كرم وبذل من قبل دول العالم الغنية، بل إنه استثمار ضروري ولازم لابد للحكومات من القيام به إذا أرادت أن تنعش اقتصادها محلياً".
المصدر: نيويورك تايمز