غالبًا ما عملت الروائية السورية "لينا هويان الحسن" على تجيير الحركة التاريخية والذاكرة، في بناء سردية معاصرة تصلح لمواكبة الآني من الأحداث، كما أنها رصدت عبر مسيرتها، مساحات جغرافية وأحداثًا قلما سُلّط القلم عليها، مثل انحيازها للكتابة عن البيئة البدوية، وأيضًا في سرديتها التي ستكون محور هذه القراءة.
فعلى الرغم من قولها: "إن الماضي قال ما قاله"، فهي مصرة على استجلاب الثيمة التاريخية والعمل عليها في خدمة الحاضر والمستقبل.
خيانة كاملة.. سيرة نسليهان بنت الباشا
"خيانة كاملة" أحدث روايات الكاتبة والروائية السورية لينا هويان الحسن، صدرت أخيرًا عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا. وتتناول الرواية -من الجانب الزمني- المرحلة التي سبقت انهيار الدولة العثمانية، كما سلطت الضوء على الطبقة الأرستقراطية الدمشقية حينذاك، ومن جانب الحدث؛ عملت "الحسن" على خلق خلطة سردية اتكأت فيها على التصوير والمشهدية والتقطيع السينمائي للنص؛ ليخرج بصبغة درامية أقرب للعمل التلفزيوني منه إلى الرواية الكلاسيكية. أما المكان؛ فقد كانت دمشق الجغرافية الرئيسية للأحداث، كما حضرت أماكن أخرى مثل تركيا والعراق... وغيرها.
وكعادتها، صبت الكاتبة جل اهتمامها على الشخوص الأنثوية؛ الرئيسية منها والثانوية، لتصور حالات متعددة في ذاك الإطار التاريخي، فعلى سبيل المثال كانت "تجارة الرقيق، الزواج والخيانة، البيئة المحافظة والتحرر" الموضوعات الأكثر حضورًا في الرواية، ومعظمها تعلقت بشخصيات نسائية.
وكتعريف عن "نسليهان" بطلة الرواية، تقول الكاتبة:
"نَسْليهان" التي ربتها قهرمانة من الصابئة، وولدتها "فيرلان" المختطفة من مستعمرة برتغالية على أحد شواطئ الهند، نسليهان التي شاركت في مظاهرة 1927 في ساحة المرجة للمطالبة بحق رفع الحجاب، هي "امرأة" من نسج الخيال، وأي تشابه مع الواقع هو محض مصادفة مع قصص تتطاير في كل الجهات، ثم تلتئم، متنكرة في عشرات الهيئات الجديدة.
تتمحور الرواية على أكثر من خط سردي وكل من هذه الخطوط مختلف عن الآخر، غير أنها تصب في حدث واحد، ففيها حكاية الخادمة "بحري" و"آسيا" الصابئية و"فيرلان" خانم، وكثير من الحكايات المتشعبة الملتقية في أكثر من موضع.
وللوهلة الأولى تظهر "نسليهان" كشخصية غنية باهتمامات سطحية، إلا أنها وبعد تكشف خيوط الرواية، تبرز همومًا ومشاغل أكثر عمقًا، كسعيها وراء فكرة الدين، لكونها تربت في كنف ثلاث نساء كل منهن تعتنق ديانة مختلفة، بالإضافة إلى انشغالها بالتحرر من سطوة المجتمع المحافظ المحيط بها. كما شكلت علاقاتها المعقدة بحمد الدرويش ويوسف اليهودي وابن عمها ناظم بيك، شحنة عاطفية أكسبت الرواية بعدًا تشويقيًا.
"عندما زارته نسليهان وأرادت التقاط صورة، لم يصدّق عينيه وهو يرى العباءة السوداء تُرمى جانبًا، وتكشف عن ثوب النيلوفر الملكي المنسكب على جسدٍ ليس سهلًا أن يعثر عليه كلما أراد أن يلتقط صورة لأنثى جميلة.
وقتها لم تكن بعد سيدة، لم تلتقِ بعد بيوسف، كانت مراهقة، تعابث حمد الدرويش، وتحبّ تجريب الأشياء الجديدة. وقفت الفتاة الشابة أمام عدسة المصور ونظرت نحوه، كمحسن ينقذ حياة طفل من الجوع.
تلك النظرة في عيني بنت الباشا لن يشملها الخراب يومًا. تتسرب من خلال أكشاك بيع التذكارات، تلوح للخيال وكأنها تحيا في عالم آخر بعيدًا عن الخراب الذي يجلبه الزمان والموت".
الدخول إلى عمق الحرملك
بلسان الراوي العليم تأخذنا "الحسن" في جولة معمقة داخل ركن الحرملك، وكأنها حملت كاميرتها وراحت تسجل ما يدور من أحداث داخل هذا الركن الذي طالما كان خفيًا على الناس. بكل ما يحاك فيه من دسائس وخيانات على القادمات الجدد، وبكل الرغبات التي تشهدها لياليه، وحالات الانتقام التي تصبح عليها أيامه.
"خلال شهر لم تلمح الباشا أبدًا، إنما كانت تسمع عن قدومه، عندما يتحوّل الحرملك ليّلًا إلى خليّة نحل من حيث النشاط والحركة. يُبخّر المكان، ويُحضّر الطعام، وتتزيّن النساء والجواري كذلك.
كان يضاجع زوجاته بانتظام. والجميع يعرف أنه قبل مرور عام يستبدل إحداهن، وغالبًا ستكون فيرلان هي بديلة الزوجة الكبرى".
في النهاية لا بد من الإشارة إلى الإتقان والإحكام اللذين حاكت بهما الكاتبة روايتها، هذا بالإضافة إلى خبرتها في سبك جملها، لتخرج سلسة مرنة لا يصعب على القارئ العادي التنقل بين جنباتها والاستمتاع بالحكاية.
الرواية والكاتبة
- الرواية: "خيانة كاملة.. سيرة نسليهان بنت الباشا"
- المؤلف: لينا هويان الحسن
- الإصدار: موزاييك للدراسات والنشر، 2022
- 173 صفحة من القطع المتوسط- 38 فصلًا.
والحسن، كاتبة وروائية سورية ولدت في بادية محافظة حماة السورية عام 1977.
درست في مدينة دمشق بكلية الآداب، وتخرجت من قسم الفلسفة مع ليسانس وشهادة دبلوم دراسات عليا. عملت في الصحافة السورية بين عامي 2003 و2013، كما عملت في الصحافة الثقافية النقدية حيث كتبت مقالات متنوعة: سينما، ونقد، وتشكيل، ومسرح، ومحاورات ولقاءات لمفكرين وأدباء وفنانين. غادرت سوريا مطلع عام 2013، وتقيم في بيروت حاليًا. كتبت خلال ذلك في عدة منشورات ودوريات وصحف عربية، آخرها صحيفة (الحياة) اللندنية.
صدر لها عدد من الأعمال الروائية منها:
- “معشوقة الشمس”، 1998
- “التروس القرمزية”، 2001
- “التفاحة السوداء”، 2003
- “بنات نعش”، 2005
- “سلطانات الرمل”، 2009
- “نازك خانم”، 2013
- “ألماس ونساء”، 2014
- “البحث عن الصقر غنام” (رواية للفتيان)، 2015
- “الذئبة ام كاسب” (رواية للفتيان)، 2016
- “الذئاب لا تنسى”، 2016
- “بنت الباشا”، 2017
كما صدرت لها أعمال شعرية ودراسات توثيقية.