في الحادي عشر من آب/أغسطس عام 2012، اعتُقل الفنان المسرحي السوري زكي كورديللو مع ابنه مهيار وشقيق زوجته عادل وصديقه إسماعيل حمودة خلال مداهمة أمنية لمنزله في دمشق، ومنذ ذلك الحين، انقطعت أخبارهم تماما، لتصبح قضيتهم واحدة من آلاف حالات الاختفاء القسري في سوريا.
زكي كورديللو، المعروف بمساهماته البارزة في المسرح السوري وإحيائه لمسرح "خيال الظل" كان رمزا ثقافيا يحاول حماية إرث فني مهدد بالاندثار، واعتقاله أثار أسئلة عديدة حول مصير المبدعين والمثقفين تحت حكم النظام السوري، وأسئلة أخرى حول مصير أسرته التي لا تزال تنتظر أي خبر عنه بعد أكثر من عقد من الزمن.
الاعتقال والغياب القسري
تحدثت عبير برازي، زوجة الفنان زكي كورديللو، في لقاء مع بودكاست "في الظل" عن تفاصيل الليلة التي غيّرت مسار حياتها وحياة أسرتها. في الحادي عشر من آب/أغسطس 2012، بعد منتصف الليل، اقتحم عناصر أمن النظام السوري منزل العائلة، كسروا الأبواب واقتادوا زكي وابنه مهيار، البالغ من العمر 26 عاما حينها، إلى وجهة مجهولة. واعتُقل معهما أيضا شقيق عبير الأصغر عادل وصديقه إسماعيل حمودة، اللذان كانا يتواجدان في المنزل صدفة.
وصفت عبير تلك اللحظات بعبارات اختلطت بالدموع، مشيرةً إلى أنهم لم يُعطوا المعتقلين فرصة لتغيير ملابسهم أو ارتداء أحذيتهم، في حين كانوا هم النساء والأطفال في المنزل، يواجهون الأسلحة الموجهة إليهم.
تقول عبير: "ما زالت صورة زكي، وجهه الشاحب ونظرته الأخيرة إلينا، عالقة في مخيلتي. كان يبدو وكأنه يودّعنا دون أن يقول كلمة".
تضيف: "زكي كان دائماً يرفض الظلم بأي شكل من أشكاله، منذ قبل الثورة، لم يكن يستطيع أن يرى شخصاً يظلم شخصاً آخر دون أن يتحدث أو يعبر عن رفضه، كان لديه حساسية مفرطة تجاه العدالة، وهذه الصفة ظلت تلازمه حتى خلال الأحداث التي وقعت لاحقاً.
وعندما بدأت الثورة، لم يكن زكي من الذين يلتزمون الصمت، بل تحدث بصراحة، وانتقد بوضوح الجرائم التي كانت تحدث أمام عينيه".
تتابع: "كان زكي يصرح بآرائه بجرأة، حتى مع زملائه، ولم يخفِ موقفه من الجرائم التي رآها.. لم يكن لديه أي استعداد للتنازل عن حرية التعبير أو السكوت خوفاً على نفسه، لكنه دفع ثمناً باهظاً لذلك ووضع اسمه ضمن قائمة الممنوعين من دخول التلفزيون، وهي قائمة شاهدتها عبير وكان فيها أربعون اسماً، بينهم زكي".
وأشارت إلى أن نشاط زكي لم يكن يقتصر فقط على التعبير عن الرأي، بل دعم الجوانب الإنسانية أيضاً: "ربما لم يكن نشاطه الإنساني ظاهراً للجميع، لكنه كان حريصاً على تقديم المساعدة لمن يحتاجونها، سواء بتأمين الغذاء أو المأوى للعائلات التي تهجرت بسبب القصف. لكن في النهاية، رأينا كيف يمكن أن يدفع شخصٌ ما ثمن مساعدة الآخرين ورأيه الحر. حتى الآن، وبعد 12 سنة من التغييب، لا نعرف أي شيء عن مصيره.. هذا الثمن ثقيل جداً، لكن زكي كان دائماً مستعداً لتحمل عواقب مواقفه، لأنه لم يستطع يوماً أن يسكت عن الظلم".
الغياب المستمر والبحث الذي لا ينتهي
بعد الاعتقال، دخلت عائلة كورديللو في دوامة طويلة من البحث عن مصير ذويهم، طرقوا أبواب الجهات الأمنية والنقابات الفنية والمؤسسات الحكومية، لكن الردود كانت صادمة ومتكررة بينها إجابة زهير رمضان: "لو لم يكن لهم ذنب، لما اعتقلوا". لم تكن تلك الإجابات سوى محاولات لتبرير غياب العدالة، وذرائع واهية لإخفاء الحقيقة، وفقا لعبير.
لم تتوقف عبير عند ذلك، بل واصلت البحث بكل السبل، بما في ذلك اللجوء إلى دفع أموال لأشخاص ادعوا قدرتهم على الوصول إلى معلومات.
تقول عبير: "تعرضنا لعمليات ابتزاز كثيرة، ولم نحصل على أي إجابة مؤكدة.. كانت كل الطرق تؤدي إلى إنكار مصيرهم، وكأنهم تبخروا من الوجود".
زكي كورديللو: فنان المسرح والإنسانية
يُعد زكي كورديللو واحدا من أبرز الفنانين المسرحيين الذين درسوا الفن أكاديميا في سوريا، وُلد عام 1962 باعزاز في محافظة حلب، وتدرّج في مراحل تعليمه متنقلا بين حلب ودمشق، حيث استقر أخيرا في العاصمة ودرس في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكان شغفه بالمسرح كبيرا، حتى أنه اختار أن يجعل منه رسالته وهدف حياته.
ورغم أن زكي واجه تحديات في العمل الفني نتيجة للمحسوبيات والشللية التي سيطرت على الوسط الفني، إلا أنه تمسك بالمسرح كمجال للتعبير عن قضايا الإنسان.
وكان يرى في المسرح وسيلة لإيصال الرسائل الإنسانية والاجتماعية، وكرّس جزءا كبيرا من مسيرته للمسرح القومي ومسرح الأطفال. كما عمل على إحياء مسرح "خيال الظل"، هذا الفن التراثي الذي كان مهددا بالاندثار.
مسرح خيال الظل: إرث حفظه كورديللو من الزوال
كانت إحدى أبرز محطات زكي كورديللو هي استلامه أدوات مسرح "خيال الظل" من أستاذه الراحل عبد الرزاق الذهبي، الذي كان يُعد آخر المخايلين في سوريا.
وتنقل عبير كيف روى زكي تسلّمه تلك الأدوات بالقول: "أنت مؤتمن على هذا الفن، احفظه من الضياع.. حمل زكي هذه الأمانة بصدق، وطوّر الدمى والأدوات، وابتكر نصوصا جديدة لتتناسب مع المسرح الحديث".
لم يكتفِ كورديللو بالحفاظ على هذا التراث، بل سعى إلى نشره بين الأطفال والشباب من خلال ورشات تدريبية وعروض متنقلة في القرى والمناطق النائية.
كانت عروضه تمتاز بالمرح والتفاعل، فقد كان الجمهور يشارك في حوارات الشخصيات، وبرزت أعماله بنصوص ساخرة وناقدة مستوحاة من الأدب العالمي والمحلي، مستخدما شخصيات خيال الظل التقليدية كـ"كراكوز" و"عواظ" في سياقات عصرية.
رغم أن زكي كان رمزا بارزا لمسرح "خيال الظل"، إلا أن اسمه لم يُذكر حين أدرجت منظمة اليونسكو هذا الفن على قائمة التراث الثقافي العالمي عام 2018. تقول عبير برازي: "حتى في غيابه، أصروا على تهميشه ومسح أثره، وكأنهم يحاولون دفنه مرتين؛ مرة جسديا ومرة ثقافيا."
الأمل بعودة زكي باق لدى زوجته
كان زكي شخصية محبوبة على المستوى الإنساني، سواء بين أصدقائه أو عائلته. تصفه عبير بالزوج المحب والأب الحنون، الذي كان يمزج بين المرح والطيبة والنبل. ورغم فجيعتها بفقدانه، إلا أنها تؤكد أنها ما زالت تحتفظ بالأمل في رؤيته يوما ما. تقول: "حتى اليوم، أتحدث معه يوميا في مخيلتي، أعيش مع ذكراه ومع ابني مهيار وشقيقي عادل. لا يمكنني أن أفقد الأمل".
وفي سؤالها عن فكرة التسامح مع من تسبب في اعتقال أحبائها، أجابت عبير بحزم: "لا أستطيع أن أسامح، هؤلاء الناس دمّروا حياتي وأخذوا مني أغلى ما أملك.. العدل يجب أن يتحقق، وأتمنى أن أراه يوما، لكنني لن أسامح أبدا."
وختمت عبير برازي حديثها بذكرى مؤلمة: كان يوم اعتقال زكي وابنها مهيار يصادف عيد ميلادها.. كانت تلك آخر لحظة رأيت فيها مهيار، حين تمدد بجانبي ليخبرني أنه يشعر بالنعاس.. لم أكن أعلم أنه كان يودعني". تقول هذه الكلمات في حين تستذكر كيف تحول ذلك اليوم من مناسبة سعيدة إلى ذكرى أليمة لا تفارقها.
وتظل قصة زكي كورديللو مثالا مؤلما على مصائر السوريين الذين اختفوا قسرا في معتقلات النظام السوري، تاركين وراءهم أسرا لا تزال تتمسك بخيوط الأمل، وغياب زكي لا يمثل فقط غياب شخص مهم في عائلته، بل خسارة لقيمة فنية وإنسانية سورية صعبة التعويض.