أثار الإعلان عن مقتل أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية يوم الأحد الماضي عشرات الأسئلة، بعضها انفعالية وليدة تأثير الخبر، يغلب عليها التشكيك ونظرية الموامرة، وبعضها الآخر ذو طابع جدي يحاول فهم ظروف الحدث وتبعاته. وإذا كان السؤال حول مصير التنظيم بعد مقتل زعيمه هو السؤال الأبرز حالياً، فإن هناك خمسة أسئلة أخرى تعتبر من الأهمية بمكان ويساعد البحث فيها بالإجابة عن السؤال الرئيسي.
السؤال الأول: هل قتل البغدادي حقاً؟
لا يوجد أي معطى مادي يجعل طرح هذا السؤال منطقياً، وهو من نوعية الأسئلة التي تطرح دائماً عند موت أي شخصية مثيرة للاهتمام، ليس على الصعيد العربي والإسلامي فقط، بل عند جميع الشعوب وفي كل الأوقات.
يذكّر هذا السؤال بالتشكيك بموت صدام حسين وأسامة بن لادن ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح.. بل وحتى بزعيمي دولة العراق الإسلامية، التي ورثتها داعش، أبو عمر البغدادي وأبو مصعب الزرقاوي، وهؤلاء جميعاً احتاج كثيرون إلى وقت طويل لتصديق حقيقة موتهم، بل إن هناك من لا يصدق حتى الآن.
والحقيقة لا يوجد سبب واحد يجعل الإدارة الأميركية تعلن عن مثل هذا الخبر ما لم يكن مؤكداً، ليس فقط لأن ذلك يمس سمعتها الدولية، بل والأهم هو الجمهور الأميركي الذي لا يمكن تصور إمكانية التلاعب به من قبل رئيس يتعرض لأزمات كبيرة تهدد مستقبله السياسي، فضلاً عن أهمية هذا الإنجاز بالنسبة لترمب الذي يعتمد على الناخبين من أجل زيادة شعبيته وتعزيز موقفه بمواجهة خصومه السياسيين، وصولاً إلى الظفر بولاية ثانية.
السؤال الثاني: هل قتل البغدادي في إدلب بالفعل؟
أيضاً هذا السؤال هو من نوعية السؤال الأول، إذ لا يستند المشككون بمكان العملية إلى أي معطيات موضوعية سوى التشكيك بما تقوله واشنطن، ويضع هؤلاء مكان الحدث في سياق مؤامرة يعتقدون أنها تحاك لإدلب، وكأن إدلب ستبقى خارج حسابات الدول المتحكمة في القضية السورية لو لم يعلن عن اصطياد البغدادي فيها!
كان يمكن لهذا السؤال أن يكون أكثر موضوعية لو استند إلى أسئلة فرعية تدعمه، مثل كيف تمكن البغدادي من الوصول إلى إدلب؟ وكيف استطاع البقاء في بحر من الأعداء؟...إلخ.
والواقع أن عدداً غير قليل من قيادات تنظيم الدولة قد تمكنوا قبل معركة الباغوز وبعدها من الوصول إلى منطقة إدلب، وسبق للعديد من الحسابات المؤيدة لداعش على موقع تليغرام أن أعلنت مع بداية العام الحالي عن أن التنظيم تمكن من إعادة ترتيب أوراقه في (ولاية إدلب).
وإلى جانب ذلك، نفذت داعش العديد من الهجمات ضد هيئة تحرير الشام في مدينة إدلب وريفها، وأعلنت بالمقابل الهيئة عدة مرات عن قتل أو اعتقال قيادات أمنية في التنظيم.
ورغم أن تحرير الشام لم تعلن عن اعتقال أي من قادة الصف الأول في داعش، ورغم إنكارها التقارير الصحفية التي تحدثت عن أن الهيئة تعتقل بالفعل مسؤولين مهمين في تنظيم الدولة، إلا أن معلومات ليس من السهل نقضها تؤكد حقيقة ذلك، بل إن الحديث عن وصول البغدادي إلى إدلب طرح من قبل بالفعل، وخاصة بعد ظهوره في التسجيل المصور الأخير الذي نشر في الشهر الرابع من هذا العام، حيث توقعت العديد من أجهزة الاستخبارات، وكذلك وسائل الإعلام أن يكون البغدادي قد سجل هذا الفيديو في منطقة إدلب.
السؤال الثالث: بضيافة أي فصيل كان البغدادي؟
فور الإعلان عن مقتله فجر الأحد، توقع كثيرون أن يكون فصيل حراس الدين هو الذي كان يستضيف أبو بكر البغدادي، انطلاقاً فقط من طبيعة الفصيل باعتباره أحد أكثر تشكيلات السلفية الجهادية الناشطة في سوريا تشدداً.
تكهن زاد من قوته الحديث عن أن البغدادي كان يقيم في منزل يستأجره أحد أعضاء (حراس الدين) ويدعى أبو محمد الحلبي، إلا أن ذلك لا يكفي للقول إن هذه الجماعة قد وفرت المأوى للبغدادي بالفعل.
فعلى الرغم من أن (حراس الدين) من القوى الجهادية الأكثر راديكالية، إلا أن عداء شرساً يطبع العلاقة بينها وبين تنظيم الدولة بطبيعة الحال، على الرغم من الهدنة العملية غير المعلنة بين الطرفين.
والعداء بين الجانبين ذو طبيعة فكرية عقدية، وهو بالنسبة لهذه الجماعات أقوى من الاحتراب العسكري، ففصيل حراس الدين يقوم بالأساس على التبعية لتنظيم القاعدة الذي يكفر تنظيم الدولة قادته ويبيح دم مقاتليه، كما هو معلوم، وإما أن يكون أحد عناصر الفصيل أو حتى أحد قادته هو من كان يشرف على إقامة البغدادي وعائلته، فهو وإن صح لا يمكن أن يكون أكثر من اختراق لتنظيم الدولة في صفوف (حراس الدين).
ويبدو القول بأن البغدادي قد يكون أقام بضيافة وحماية قيادة لواء أنصار التوحيد أقرب إلى المنطق من الاعتقاد السابق، على اعتبار أن اللواء هو من بقايا تنظيم جند الأقصى الذي التحق الجزأ الأكبر من عناصره وقادته بداعش قبل ثلاث سنوات، بينما لا يخفي من تبقى منهم تعاطفهم مع التنظيم وتأييدهم لأفكاره.
ويبقى الاحتمال الثالث وهو الأكثر منطقية، أن يكون أبو بكر البغدادي قد أقام في هذه المنطقة من دون علم أي من الفصائل وبالاعتماد على بعض خلايا داعش الموثوقين والمقربين، سواء المنخرطون منهم في فصائل إدلب أو المدنيين.
السؤال الرابع: هل كانت هيئة تحرير الشام تعلم بوجود البغدادي في إدلب؟
لم تكن الهيئة لتوفر صيداً ثميناً بحجم أبو بكر البغدادي لو أنها علمت بمكان وجوده في منطقة سيطرتها، ولو أن قيادتها كانت على يقين بوجود ألد أعدائها في إدلب لما وفرت وسيلة من أجل الوصول إليه.
والواقع أن تحرير الشام ومنذ نحو عام بدأت تشك بوصول قادة من تنظيم الدولة إلى منطقة إدلب مع النازحين الفارين من مناطق المواجهات الأخيرة بين التنظيم وقوات التحالف الدولي وقوات قسد، بل إن مصادر خاصة أبلغت تلفزيون سوريا أن الهيئة وصلتها معلومات خلال الأشهر الماضية أن بين هؤلاء القادة، الذين تمكنت على الأغلب من الوصول إلى بعضهم، ربما يكون البغدادي نفسه، إلا أنها لم تكن معلومات قاطعة، لكن هذه المصادر أكدت قيام الهيئة بعمليات بحث محمومة ومارست شتى أنواع الضغط بحق أسرى داعش الذين اعتقلوا مؤخراً لديها من أجل الوصول على معلومة مفيدة بهذا الخصوص، إلا أن شيئاً مهماً لم يتوفر لديها.
السؤال الخامس: من سيخلف البغدادي؟
فور الإعلان عن مقتل أبو بكر البغدادي انتشرت معلومات تتحدث عن تزكيته للمسؤول الأمني في تنظيم الدولة (عبد الله قرداش) ليكون خليفة له، وأن مجلس شورى قيادة التنظيم قد وافق بالاجماع عليه.
وقرداش، المعروف باسم أبو عمر التركماني، ينحدر من بلدة تلعفر العراقية التي قدمت للتنظيم العديد من القادة، وهو أحد آخر رجالات الحرس الأمني القديم الذي نهض على أكتافه تنظيم داعش بعد انتكاسته الكبيرة عام ٢٠١١ بقيادة حجي بكر وآخرين.
ورغم أن من نشر هذه المعلومات هي أجهزة استخبارت إقليمية، ورغم أن الاسم المطروح يعتبر اختياراً منطقياً بالنظر إلى مراكز القوة الحالية في تنظيم الدولة، إلا أن ذلك لا يعني حسم قضية من سيخلف البغدادي في قيادة التنظيم.
فعلى عكس مرحلة الصعود عامي ٢٠١٣-٢٠١٤، عرفت داعش لاحقاً انتكاسات أخرى داخلية كبيرة إلى جانب الانتكاسات العسكرية، وبلغت الانقسامات والخلافات ذروتها العام ٢٠١٧، إلا أن القوة الأمنية تمكنت من احتواء معظم المشكلات وابقائها بعيداً عن الأضواء، الأمر الذي زاد من هيمنة الأمنيين الذين كانوا دائماً الطرف الأقوى في التنظيم، بل إن هناك من يرى أن أبو بكر البغدادي نفسه لم يكن سوى واجهة للقادة الأمنيين المتحكمين فعلياً بالتنظيم.
وإذا صح الحديث عن اختيار التركماني خلفاً للبغدادي، فستكون هذه المرة الأولى التي ينتقل بها الجناح الأمني من الظل إلى الواجهة في قيادة داعش، على الرغم مما سيخلفه ذلك من انقسامات جديدة متوقعة بسبب وجود طيف في التنظيم يرفض أن يقوده رجل من القوة الأمنية، كما أن هناك من يطالب باختيار قائد من غير العراقيين للتأكيد على أممية التنظيم وأن قيادته غير محصورة بالجنسية العراقية.