"لا يمكنك أن تكون جباناً أمام صندوق الاقتراع وبطلاً في السرير".. عبارة تلخص كيف يؤثر القمع على فحولة الرجل، فكيف إذا أضيفت له عوامل أخرى ضمن مجتمع قبلي متزمت؟ لعل الروائي الليبي محمد النعاس استطاع من خلال أول عمل له أن يرسم صورة للقمع الاجتماعي والسياسي في زمن الجماهيرية و"الأخ القائد" وكيف انعكس كل ذلك على المستوى العلائقي بين البشر خلال تلك الحقبة.
حازت رواية النعاس الأولى "خبز على طاولة الخال ميلاد" الصادرة عن دار "رشم" للنشر والتوزيع على الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) لعام 2022، وهي تستحق ذلك بكل جدارة، إذ نسج الكاتب أحداثها حول شخصية "ميلاد"، ذلك الشاب الوحيد بين أربع شقيقات، والذي حاول أبوه أن يجعل منه رجلاً رغم أنفه، لكن حلمه بذلك قد تكسر عند حدود شخصية ميلاد الهشة، تلك الشخصية التي تشكلها مراحل أربعة ممثلة بأربع شخصيات، مرحلة الفرن -"الكوشة" باللهجة الليبية- وبطلها أبوه الذي يمثل قمع المجتمع الأبوي، ومرحلة العسكرية متجسدة بشخصية "المادونا" القاسية التي تمثل القمع السياسي، ثم المرحلة العاطفية التي تختتم بالزواج من "زينب"، تلك المرحلة التي تمتزج تقارباً وتباعداً مع مرحلة الرجولة وفقاً لقيم المجتمع متمثلة بشخصية "العبسي" والتي تعبر عن عقلية القبيلة.
ليست صدفة أن يختار المؤلف لبطله مهنة الخباز، إذ كانت صناعة أنواع الخبز حاضرة بكل أشكالها وأنواعها في هذا العمل بتفاصيلها الدقيقة، لترمز إلى كل تلك العوامل وكيف تشكل الفرد العربي في مجتمعاتنا كيف تشاء هي لا كيف يشاء هو، فلا نجد لدى شخصية ميلاد أي قدرة على الاختيار، إذ نجده وقد اختار له أبوه أن يمضي إلى الجيش ليصبح رجلاً، ومهنة الخبازة هي من اختارته بحكم الوراثة لا هو من اختارها، بل حتى البنت التي أحبها لعبت التوقعات الاجتماعية منه كرجل دورها في اختياره لها، ولهذا نجده يقول: "الجهنمية كامرأة نسيت تمشيط شعرها الطويل لسنوات، شجرة رمان تكاد تموت، ذكرتني بشجرة التفاح المهملة في مزرعة عمي، وذلك اليوم الذي حكمت علي زينب فيه بالزواج منها دون أن تدري هي ولا أنا". يتكرر الأمر مرة أخرى مع ميلاد الذي نجده مسلوب الإرادة منقاداً لرغبة ابن عمه "العبسي" عندما يغضب على زينب بتحريض من الأخير ثم يصفعها.
تتميز الرواية بأسلوب بديع في السرد يشعرك بأن ميلاد يسرد لك قصة حياته عبر ومضات تنذر بما سيأتي من أحداث ممزوجة مع ذكريات من الماضي
سبق وأن تصدى كثير من المؤلفين للتوقعات التي تكبل المرأة في مجتمعنا، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها كاتب شخصية لرجل يعاني من هشاشة نفسية تجعله تابعاً لكل من حوله، تماماً كما تفعل زهرة عباد الشمس التي يعشقها والتي ورد ذكرها في الرواية غير مرة، وكيف تفعل التوقعات الاجتماعية فعلها في تدمير حياته كرجل أكثر فأكثر إلى أن نصل إلى أهم صراع في الرواية متمثلاً بالعلاقة المتوترة في المجتمع العربي بين الرجل والمرأة.
***
تبدو علاقة ميلاد بزينب علاقة مستقرة هادئة، فقد تزوجا بعد قصة حب سادها تقبل كبير متبادل، ثم أصبحت زينب تعول زوجها بعدما فشل هو بإعالتها، لا لشيء إنما بسبب عدم قدرته على تحمل أنواء الحياة التي يفرضها عليه ذكور آخرين عتاة، وعلى رأسهم عمه، ولذلك نجده يرتب البيت ويطهو ويغسل ثيابها ويكويها ويرتبها ويجلس يخبز بانتظار قدومها من العمل في تبادل واضح للأدوار الاجتماعية المنوطة للجنسين، ولذلك يخفي الأمر عن أهله ومعارفه ويطلب من زوجته أن تخفي الأمر كذلك. ثم نجدهما على الرغم من حرمان كليهما من الانجاب، إلا أن ذلك لم يؤثر على علاقتهما كزوجين، بيد أن ما أفشل علاقتهما في الصميم هو وشاية ابن العم، ولكن القصة لم تبدأ مع الوشاية والتحريض، بل لها جذور قديمة ضربت عمقها في عقل أي رجل شرقي وجعلت من ذلك مقياساً للرجولة، إذ طوال الرواية تتكشف إشارات توحي بأن ميلاد لم يكن الأول في حياة زوجه زينب، وبأنها خاضت تجارب كثيرة قبله حتى وهي تدعي عكس ذلك، مثلاً عندما استأذنته في شرب الكحول عند سفرهما إلى تونس لأنها تود أن تجربه حسبما قالت، لكنها حملت كأسها كمن اعتاد على الشرب، ولذلك لم يجد المؤلف مناصاً من الاقتصاص من شخصية زينب عبر قتلها في نهاية الرواية كحل لإنهاء هذا الصراع بين الرجل والمرأة في المجتمع الشرقي.
يبدو حل هذه العقدة تقليدياً للغاية، لكني أراه يرمز لأسلوب تعامل المجتمع مع كل امرأة يعتبرها متحررة من قيوده، أو تسعى للتحرر من تلك القيود، إذ لا يكتفي المجتمع الأبوي بطعنها في شرفها والتشكيك بها، بل لابد له من قتلها حتى يشفي غليله ويثبت وصايته، ولعل ذلك ما دفع المؤلف للاستشهاد بأمثال شعبية تدعو للعنف ضد المرأة مثل: (اضرب القطوسة تتربى العروسة) أو (البنات زريعة إبليس)، ولا يكتفي المجتمع بهذا الحد، بل يعير الرجل الذي يعطي نساء بيته حريتهن، إذ نجد الكاتب يقول في بداية الرواية: "(عيلة وخالها ميلاد).. مقولة شعبية منتشرة بين الليبيين، يعيرون بها الرجل الذي لا يملك سلطة على النساء اللائي يتبعنه، وهو إلى ذلك يقدح في أخلاق النساء أنفسهن".
تتميز الرواية بأسلوب بديع في السرد، يشعرك بأن ميلاد يسرد لك قصة حياته عبر ومضات تنذر بما سيأتي من أحداث ممزوجة مع ذكريات من الماضي، ما يجعل السرد طبيعياً وحقيقياً، كما يعبر بكل صدق عن شخصية ميلاد المشوشة الهشة والتي تترك العنان لمشاعرها حتى تقود السرد بحسب انفعالاتها، تماماً كما يفعل بنا المجتمع والظروف أيضاً.
معظم الشخوص في الرواية لا يطرأ عليها أي تطور يذكر، باستثناء شخصية زينب التي تحاول تجاوز الخطوط الحمر التي تقيد حياة النساء في مجتمعها، فيطرأ على شخصيتها تطور طفيف للغاية يصعد الأحداث نحو عقدتها ثم الحل المأساوي الأخير. أما بطل الرواية "ميلاد" فيبقى يتعامل مع الجميع بالتساهل نفسه، وكلما ضاقت به الأمور فكر بإنهاء حياته هرباً من المواجهة والبحث عن حلول، وحتى التغير الذي يحدث لشخصيته يشعر معه القارئ بأنه لم يحدث سوى في خياله المريض المشوش، ولعل الكاتب اختار الجمود لتلك الشخصيات حتى يثبت لنا بأن المجتمع يخصي المرء من قدرته على التغيير، سواء تغيير نفسه أو واقعه، أما من يشب عن الطوق فالموت ينتظره متربصاً.
***
بالعودة إلى المكان الذي وقعت فيه أحداث الرواية، لابد للقارئ هنا أن يستشعر ثقل المركز وخفة الهوامش، فليبيا تمثل المركز أما تونس وبقية دول الجوار فهي الهوامش، ولذلك عند سفر ميلاد وزينب مثلاً إلى تونس عقب زفافهما، يستشعر ميلاد وطأة ثقل المركز مع إحساسه بخفة الهامش ولهذا نجده يخشى أن يرى أحد الليبيين زوجته وهي تسبح بالبكيني، كما نجده يتحرر من عبء نظرية المؤامرة الإسرائيلية عندما يصادق يهودياً هناك، بيد أن هذه الخفة والثقل يخلقان الصراع المناطقي المعروف بين الريف المتمثل بالبيئة التي أتى بطل الرواية منها والمدينة التي عاش فيها وتمثل له الحب بكل تجلياته، خاصة بعد لقائه بزينب من جديد.
يقدم المؤلف بطل الرواية "ميلاد" كضحية مازوخية تسعد بمن يعذبها فيتعاطف معها القارئ، لكنها شخصية بلا ملامح حقيقية، وذلك لأنها تذوب في بقية الشخصيات التي تحاول أن تشكلها على هواها، وما الانتفاضة الأولى والأخيرة لهذه الشخصية سوى حالة ميوعة أخرى تنساب نحو تلك القوالب التي تنتظرها لتخرج بها من الفرن بالشكل الذي يتوقعه الجميع.
في النهاية لم يكن ميلاد عند حسن ظن مجتمعه به إلا فيما يتصل بالإناث من حوله، إذ لم يتمكن من أن يعول بيته كما يفعل أي رجل في بيئته، ولم يعد إلى العمل في "الكوشة" كما طلب منه ابن عمه، وحدها علاقته بزوجته وشقيقاته وابنة شقيقته وزميلة زوجته هي التي طابقت ما يمكن لأي ذكر في مجتمعه أن يفعله: فقد أدب زوجته وخانها مع زميلتها، كما وضع حداً لشقيقاته وتدخلاتهن بحياته، وحرم ابنة أخته من ارتداء الجينز، في حين لم يضع هذا الحد لابن عمه "العبسي" مثلاً، أي أنه كان هو بحق العجينة التي شكلها المجتمع كيفما أراد، والغريب في الأمر أن المقاطع التي تصف لنا عملية تحضير أنواع معينة من الخبز تأتي على ذكر موس الحلاقة التي يشكل بها الخباز خبزه، ما يعني أن عملية التشكيل ليست سهلة أبداً، بل إنها أشبه بطعنات تنتهي بالتوقيع المميز الذي يضيفه الخباز على رغيفه، تماماً كما يفعل القمع بنا إثر ترويضنا، وعن تلك العملية نقرأ:
" حسنًا، نحن الآن جاھزون لوضع خبزنا في الفرن. نمّرر لوح النقل تحت الرغیف النيء، ثّم ننقله بسرعة وهدوء إلى الطاجین. نملأ الطاجین تاركین مساحات بین الخبز الذي سیكبر في الدقائق التالیة. عندما نملأ الطاجین بالأرغفة، نأخذ سكيناً حادة. في العادة أستخدم موسى الحلاقة لخفته وسهولة التعامل معه، لكن يمكن استخدام أي سكين جيدة. أمّرر الموسى بزاویة ٨٠ درجة، ضابطاً الحدود بأصابعي. أكّرر العملیّة جاعًلا الخطوط متوازیةً على سطحِ الخبز. يضيف التوقيع شكلاً مميزاً للخبز، ثم إنه يساعد على ارتفاعه بانسياب، يمكن أن تفعل ذلك بأي زاوية تجدها مناسبة، وبالعدد الذي تريده، حسب طول الرغيف، لكنني أفضل تعليم خبزي بأربعة خطوط متوازية فقط" أجل إنها الخطوط التي أسلفت الحديث عنها: خط الديكتاتورية السياسية والاجتماعية ثم خطا زينب والعبسي المتضاربين أي علاقة المرء بالجنس الآخر ونظرة المجتمع لتلك العلاقة، صحيح أن تلك الخطوط متوازية لكنها تلتقي فوق صفحة رغيف الخبز نفسه، ذلك المواطن الذي تعجنه الحتمية الاجتماعية وتخبزه على طريقتها، ليخرج من الفرن مدجناً جاهزاً لتنفيذ كل ما هو مطلوب منه من دون أدنى تفكير بتغيير الواقع.