من خلال قرار الحصانة التي أصدرته المحكمة العليا يوم الإثنين بحق ترامب، أكدت المحكمة على مبدأ عزيز ألا وهو أنه لا أحد في أميركا فوق القانون، حتى الرئيس نفسه.
إلا أن من انشقوا عن المحكمة وجوقة منتقديها ذكروا بأن قرار الأغلبية يقوض هذه الفكرة، بما أنهم رفعوا الرئيس لمنزلة ملك لا يمكن أن يخضع للمحاكمة، كما حذروا من أن ينبت الرؤساء مستقبلاً عن حكم القانون، بحيث يصبح بمقدروهم التورط وبكل حرية في نشاط إجرامي، ثم تحدثوا عن احتمال عودة دونالد ترامب للرئاسة عبر ولاية ثانية، بما أن هذا الرجل لديه لائحة اتهام تتصل بما فعله لإلغاء نتيجة انتخابات عام 2020 وهذا ما دفع المحكمة العليا للتدخل، بعدما تحولت أسوأ كوابيسها إلى واقع.
حصانة بلا حدود
يعلق على ذلك ديفيد بيكر المدير التنفيذي لمركز ابتكارات وأبحاث الانتخابات، فيقول: "في حال وصول رئيس مستقبلاً إلى المكتب البيضاوي وقرر هذا الرجل ارتكاب جرائم، قد تصل إلى تخريب الانتخابات أو البقاء في السلطة رغماً عن إرادة الشعب الأميركي، فإن هذا الرأي من وجهة نظري يمكن أن يرسم خارطة الطريق لتحقيق ذلك".
وتابع بيكر الذي كان يعمل في السابق محامياً متخصصاً في حقوق التصويت لدى وزارة العدل، فقال بإنه يعتقد بأن محاكمة ترامب عن سلوكه السابق يمكن أن تحقق تقدماً بطريقة ما، إلا أن محاسبته هو وغيره من الرؤساء أصبحت عسيرة للغاية بسبب الحكم الذي صدر يوم الإثنين، وشأنه شأن من انشقوا عن المحكمة والذين تتصدرهم القاضي سونيا سوتوماير، أورد بيكر أمثلة مفترضة حول رؤساء أمروا الجيش بقتل معارضيهم السياسيين، فقال: "لو فعل وزير الدفاع ذلك، سواء أنجح بذلك أم لا، فستجري محاكمة كل من تورط في تلك الجريمة باستثناء شخص واحد ألا وهو الشخص الذي أصدر الأوامر".
"قضاء يتعاطى المنشطات"!
قبل ترامب لم يتهم أي رئيس أميركي سابق أو حالي بأي جريمة، على الرغم من اقتراب بعضهم من ذلك، فقد اضطر ريتشارد نيكسون للاستقالة إثر تورطه بفضيحة ووترغيت ثم عفا عنه خلفه جيرالد فورد.
وقد علق على الأمر جون دين وهو المستشار السابق للبيت الأبيض أيام نيكسون، فذكر يوم الإثنين بأنه لو صدر حكم المحكمة هذا في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لتغير مجرى التاريخ، وهذا ما دفعه للقول في مؤتمر صحفي: "عندما تذكرت ما جرى أدركت أنه كان بوسع ريتشارد نيكسون أن ينجو من المحاسبة" لأن الأدلة ضده قامت على تصرفات رسمية اعتبرتها المحكمة العليا غير قابلة للمحاكمة.
بدأت فضيحة ووترغيت باقتحام لمقر اللجنة الوطنية الديمقراطية، ثم توسعت لتشمل طائفة من النشاطات السرية غير المشروعة التي كان لإدارة نيكسون وحملته يد فيها، ما أدى إلى إدانة العشرات من مساعديه ومرافقيه.
ولذلك وصف دين الذي أصبح أحد مشاهير الشهود خلال فترة التحقيق بفضيحة ووترغيت، الحكم الصادر يوم الإثنين بأنه: "قرار متطرف صادر عن محكمة متطرفة" وبأن: "نشاط القضاء قائم على المنشطات".
أتى القرار عندما ادعى الفريق القانوني لترامب بأنه يتمتع بحصانة واسعة تعفيه من لائحة الاتهام التي وجهها له المدعي الخاص جاك سميث والتي ورد فيها ذكر التآمر بهدف السيطرة على الولايات المتحدة من خلال الاحتيال.
هذا ولقد أصدرت المحكمة العليا أحكامها على رؤساء يتمتعون بحصانة مطلقة تجاه تصرفات قاموا بها ضمن إطار مسؤولياتهم الأساسية ولهذا فمن المفترض أن تتمتع بالحصانة ضمن التصرفات الرسمية الأخرى، لكنها لا تتمتع بتلك الحصانة أمام الاتهامات المتعلقة بالتصرفات غير الرسمية، ولهذا فإن الحكم وجه ضربة للمدعين العامين الذين بات عليهم اليوم أن يقنعوا القاضي بمتابعة القضية.
حصانة بلا معالم واضحة
يرى ديريك مولر وهو أستاذ القانون بجامعة نوتردام بأن هذا القرار صعّب أمر محاكمة الرؤساء من دون أن يعفيهم من المساءلة، وعن ذلك يقول: "إن هذا القرار قطعاً يمنح الرئيس حماية أكبر، لكني أرى مزالق أمام الإدارات الأميركية التي ستأتي مستقبلاً في حال اعتمدت على القرار بشكل كبير"، وذلك لأن الحد الفاصل بين التصرفات الرسمية وغير الرسمية غير واضح، كما هي الحال مع قضية ترامب برأي مولر، ولذلك فإن القرار ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال استمرار اتهام سميث لترامب بخصوص الانتخابات، كما أنه وفر بعض الحماية للرئيس بايدن في حال خسر أمام ترامب خلال هذا الخريف، ولهذا يتابع مولر بالقول: "إن القرار يمنع الرئيس ترامب من محاكمة الرئيس السابق بايدن على كثير من الأمور الجسيمة إن كانت تلك هي القضية، لذا فإن هنالك طريقة يمكن من خلالها وقف تصعيد الخطاب بشأن رئيس أو مرشح رئاسي يهدد بمقاضاة رئيس سابق على أفعال رسمية". وقد وصف مولر المثال المفترض حول مؤامرة الاغتيال بأنه عبثي، وأضاف بأن كثيرين سيرفضون تنفيذ هذا الأمر لأنهم سيخشون من المحاكمة، ثم إن هنالك كثير من الأمور التي يجب فعلها في قضية ترامب لدى المحاكم الابتدائية، وبذلك قد تعود القضية بكل بساطة إلى المحكمة العليا، أي بالمختصر، ما تزال التفاصيل الدقيقة التي تتصل بالفترات التي يتمتع خلالها الرؤساء بالحصانة غير واضحة، ويعلق مولر على ذلك بقوله: "لست أدري إن كنت سأستشهد بذلك على الفور في حال أصبحت رئيساً يحاول التهرب من مسؤولية جنائية مستقبلاً".
حرر هذا القرار رئيس المحكمة العليا القاضي جون روبرتس، وانحاز إليه أربعة قضاة من الحزب الجمهوري، في حين أيدت قاض أخرى من الحزب الجمهوري اسمها إيمي كوني باريت القرار لكنها عارضت جزءاً منه.
ولقد اختلف القضاة الديمقراطيون الثلاثة حول رأي سوتوماير الذي أكد بأن غالبيتهم أقاموا منطقة خالية من القانون حول الرئيس على حد تعبيرها، وهذا ما دفع تلك القاضي لأن تكتب وتقول: "هل يجوز له إصدار أمر للبحرية لتقوم باغتيال معارض سياسي؟ نعم، فهو يتمتع بالحصانة، وهل يجوز له تنظيم انقلاب عسكري ليستولي من خلاله على السلطة؟ نعم، فهو يتمتع بالحصانة، وهل يجوز له تلقي الرشى مقابل العفو؟ نعم، فهو يتمتع بالحصانة.. حصانة.. حصانة.. حصانة".
وأضافت بأن الحكم الصادر بالأغلبية يعني بأن الرؤساء لن يتعرضوا للعواقب التي يتعرض لها غيرهم، وكتبت قائلة: "مع كل استعانة بالسلطة الرسمية، أصبح الرئيس اليوم ملكاً فوق القانون، ولهذا أعلن انشقاقي خوفاً على ديمقراطيتنا".
فيما ذكر روبرتس بالنسبة لرأي الأغلبية بأن من انشقوا قد بالغوا في مقولتهم عندما ذكروا بأن الرئيس غدا فوق القانون، أما بالنسبة للسلطات الواسعة التي يتمتع بها الرئيس، فقد كتب روبرتس ليقول بإنها: "لا تجعله فوق القانون، بل تحافظ على البنية الأساسية للدستور الذي يتفرع عنه هذا القانون"، وأضاف بأن المنشقين تورطوا في عملية: "الاتجار بالخوف التي تقوم على أساس فرضيات فيها كثير من الشطط".
في منشور كتب بأحرف لاتينية كبيرة، أشاد ترامب بالحكم ووصفه بأنه: "قرار حكيم كتب ببراعة" لأنه سيخفي الاتهامات الموجه ضده و"سيطويها في غياهب النسيان" على حد تعبيره.
هذا ويتنافس الرئيس السابق ترامب مع الحالي بايدن في معظم استطلاعات الرأي، بل ويتقدم عليه، وذلك قبل أشهر أربعة تفصلهما عن الانتخابات.
يذكر أن هيئة محلفين بنيويورك دانت ترامب في أيار الماضي بـ 34 تهمة جنائية شملت تزوير سجلات تجارية في محاولة للتستر على مبالغ دفعت كتعويض لإسكات نجمة أفلام إباحية، وما يزال ترامب متهماً في ثلاث قضايا أخرى.
القرار بيد الناس
اعتبر من انتقدوا القرار انشقاق بعض القضاة عن المحكمة بسببه بمثابة استشراف لما سيحدث في أميركا في حال شعر أي رئيس لها مستقبلاً بأن بوسعه أن يتصرف كما يحلو له لأنه سينجو من العقاب.
وعن ذلك يقول نورم إيسن وهو عضو مهم لدى معهد بروكينغز: "عندما يحذر قضاة منشقون من شرعنة الأغلبية وإجازتهم لجريمة قتل نفذها شخص في بلدنا، فلابد أن يؤخذ هذا التحذير بعين الجدية" وقد شغل هذا الرجل منصب المستشار الخاص لدى اللجنة القضائية التابعة لمجلس النواب خلال المرة الأولى التي اتخذ فيها قرار لعزل ترامب، ولهذا يرى هذا إيسن بأن القرار: "مزق وبشكل خطير النسيج الدستوري الأميركي كما أضر بالضوابط وحالات التوازن التي ساعدتنا على البقاء كدولة طوال قرنين ونصف".
أما سيدريك ريتشموند وهو أحد من يديرون حملة بايدن فقد وصف الحكم بأنه تذكير للناخبين حتى لا يختاروا ترامب عند الاقتراع، ثم كتب في بيان له الآتي: "إن محكمة ترامب جعلت بلدنا عرضة لهجوم من الداخل، لأنها أزالت الحواجز التي تحمينا من محاولة أي رئيس للتحول إلى ديكتاتور".
في حين ذكر بيكر بأن ترامب حصل على البراءة في قضيتي عزل، ومن الصعب تخيل مجلس الشيوخ وهو يدين أي رئيس عبر البدء بإجراءات عزله، وذلك بسبب الاستقطاب السياسي الشديد الذي تشهده البلد. ومع تقييد النظام القانوني اليوم بالحكم الذي صدر يوم الإثنين، يرى بيكر بأن أهم وسيلة لمحاسبة الرئيس أصبحت بيد عامة الناس، وهذا ما دفعه للقول: "ثمة ضابط أساسي لمنع الفاسدين وعديمي الضمير من إساءة استخدام السلطة التنفيذية، وهذا الضابط يتمثل بالتصويت".
المصدر: The Washington Post