لم يكن مفاجئاً للكثير من المتابعين حجم الرد الهزيل الذي قامت به ميليشيا حزب الله على اغتيال إسرائيل لفؤاد شكر، الذي كان من أهم قادة الحزب العسكريين.
الحزب وخلفه إيران، ومنذ بداية العدوان على غزة، يتجنبان المواجهة المباشرة مع جيش الاحتلال لإدراكهما خطورة حدوث هذه المواجهة، والتي قد تفضي إلى نسف كل المكاسب الميدانية والسياسية التي حصلوا عليها في السنوات العشر الأخيرة، ولخطورتها أيضاً على المشروع النووي الإيراني.
بعد هذا الرد الهزيل مباشرة خرج المرشد الأعلى لما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي في سلسلة منشورات على منصة إكس يشرح فيها لشعبه ولشيعة العالم ممن يدينون له بالولاء عن مفهومه للعدو وعن من هو العدو الأول الذي ينبغي قتاله. وقال في أول هذه المنشورات: "إنّي سِلمٌ لِمن سَالَمَكُم وَحَربٌ لِمَن حَاربَكُم إلى يَوْم القِيَامَة. المعركة بين الجبهة الحسينيّة والجبهة اليزيديّة مستمرّة ولا نهاية لها".
هذا استحضار واضح للمعارك بين العرب والفرس والتي حدثت قبل بزوغ فجر الإسلام وكانت آخرها معركة ذي قار، معارك يجب أن تستمر وتكون هي بوصلة الإيرانيين اليوم بحسب ما يريده المرشد الأعلى.
وهنا يجب أن نسأل، لماذا وفي هذا التوقيت يخرج رأس هرم السلطة في إيران والحاكم الفعلي للبلاد ليؤجج الأحقاد ويثير الفتن عبر استحضاره لصراع السلطة بين يزيد بن معاوية وأولاد علي بن أبي طالب؟ وللإجابة على هذا التساؤل يجب أن نذكر أنفسنا بداية بأن إيران دولة مذهبية وبنيتها الصلبة متمركزة حول كونها دولة الشيعة وللشيعة فقط، وسردية المظلومية الشيعية تأتي في صلب عقيدة الدولة، وهي من دون هذه المظلومية لا تستطيع الاستمرار والمحافظة على قوتها. لست في وارد الدخول في الصراعات الفقهية ولا الأحداث التاريخية التي حصلت بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ثم حوادث كثيرة جرى الكثير من التحريف في وقائعها لخدمة رؤية كل طرف حسب مصالحه. لكن من المفيد أيضًا أن لا نتغافل عن أن الصراع في جوهره هو صراع فارسي عربي وإن تم إلباسه لبوسًا مذهبيًا، حتى خامنئي نفسه تحدث سابقًا في لقاء مصور وقال فيه إن الصراع بين الجبهتين (الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية) سابق لحادثة مقتل الحسين. وهذا استحضار واضح للمعارك بين العرب والفرس والتي حدثت قبل بزوغ فجر الإسلام وكانت آخرها معركة ذي قار، معارك يجب أن تستمر وتكون هي بوصلة الإيرانيين اليوم بحسب ما يريده المرشد الأعلى. وحتى تكون الإجابة على هذا السؤال منطقية يجب أن ننظر أولًا للتوقيت والسياقات التي جعلت خامنئي يشعل هذه المعارك. خامنئي أدرك أنه لا طاقة له على مواجهة مباشرة مع إسرائيل وأميركا في الوقت الحالي خصوصًا بعد كل التوحش الذي مارسه جيش الاحتلال في غزة وفي بعض مناطق جنوبي لبنان، وأيضًا حين قرروا توجيه ضربة للحوثي دمروا ميناء الحديدة وكانت ضربة موجعة وتحمل رسالة مباشرة لإيران مفادها بأنه لا شيء يردعنا عن فعل ذات الأمر في إيران. توحش إسرائيلي رافقه دعم أميركي كبير وعلى كل الأصعدة العسكرية والسياسية والإعلامية، ومؤخرًا زادت أميركا من وجودها العسكري في المنطقة بعد إرسال حاملات الطائرات وأسراب جديدة من مقاتلاتها، وكان آخرها المقاتلة F22 رابتور التي تعتبر درة تاج سلاح الجو الأميركي والتي لا تبيعها لأي دولة في العالم. التقط خامنئي جيدًا هذه اللحظة بعد أن أدرك استحالة الرد على اغتيال إسماعيل هنية وأراد إعادة ضبط البوصلة الإيرانية نحو عدو قديم جديد وتعتبر المواجهة معه حسب العقيدة الإيرانية أولوية ومقدمة على مواجهة أي عدو آخر، فكانت هذه المنشورات التي تزامنت مع استعداد إيراني لاستئناف الحوار مع الجانب الأميركي لأجل مباحثات نووية جديدة قد تكون مشابهة لتلك التي نتج عنها قبل سنوات الاتفاق النووي.
تعيين ظريف بما يمثله من تيار يجابه الحرس الثوري وسياساته في المنطقة، وأيضًا لما له من خبرة في المفاوضات مع الأميركيين وخلفهم الأوروبيون، يعني أن إيران تستجدي التهدئة مع الغرب
إذًا نحن اليوم أمام استراتيجية إيرانية جديدة كليًا تقوم بداية على الحفاظ على المكاسب الحالية قدر الإمكان وعدم المساس ببنية النظام الصلبة ومواجهة أي تآكل داخلي قد يصيبه. وكإجراء أولي لتطبيق هذه الاستراتيجية كان لا بد من الاستعانة بجواد ظريف، والذي يمكن أن نسميه بجنرال الدبلوماسية الإيرانية ليس لأنه ذو خلفية عسكرية، لكن لأنه من أكثر السياسيين اصطدامًا مع الحرس الثوري ومع الدولة العميقة. ظريف الذي شغل مناصب عدة، آخرها كوزير للخارجية، كان عراب الاتفاق النووي الذي وقع بين إيران وإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، والذي اعتبر في وقته انتصارًا كبيرًا لإيران. وظريف ذاته قال في إحدى محاضراته بعد أن استقال - أقيل من منصبه كوزير للخارجية - بما معناه أن هناك قسمًا كبيرًا من الشعب الإيراني ضاق ذرعًا بسياسة التوسع والشعارات الكبرى التي شكلت عنوانًا عريضًا لسياسة الدولة منذ ما سمي بالثورة الإسلامية عام 1979، ويأتي شعار تحرير القدس في مقدمتها. وما قاله ظريف يعبر عن شريحة وازنة داخل المجتمع الإيراني تبحث عن الازدهار الاقتصادي والخدمي وتريد أن تصرف ميزانية الدولة داخل حدودها.
تعيين ظريف بما يمثله من تيار يجابه الحرس الثوري وسياساته في المنطقة، وأيضًا لما له من خبرة في المفاوضات مع الأميركيين وخلفهم الأوروبيون، يعني أن إيران تستجدي التهدئة مع الغرب وتهرب من المواجهة المباشرة مع الاحتلال. شعار الصبر الاستراتيجي صار اليوم اسمه الهروب الاستراتيجي، ولا بد من تحويل البوصلة الشعبية من مواجهة الشيطان الأكبر (أميركا) إلى مواجهة الجبهة اليزيدية.. أي العرب.