منسجماً كالعادة، مع طبيعته وسلوكه، نشر القصر الجمهوري، بمناسبة نهاية السنة المنقضية، فيلماً قصيراً عن إنجازاته. تضمن صوراً عن زيارات العائلة الحاكمة إلى الخارج، وحصيلة الاستقبالات التي حظي بها رئيس النظام، من قبل زعماء تولوا - وما زالوا - محاولات "تعويمه"، وعلى الأصح تنظيفه من قذاراته المشينة، علّ المجتمع الدولي يعاود القبول به، وبما يطمر تحت الابتسامات المنمقة والمصافحات الحارة جرائم نظامه، المرتكبة بحق الشعب السوري، طيلة السنوات الماضية.
المساعي البروتوكولية التي يزدهي بها الأسديون، ويضعونها في واجهة ما يحتفلون بإنجازه خلال عام كامل، تتوهج فعلياً في المشهد المظلم؛ فإذا كان المجتمع الدولي يتواطأ مع إجرام الإسرائيليين، ويرحب فعلياً بجرائمهم ضد الفلسطينيين في غزة، بحجة دفاع الكيان الصهيوني عن نفسه، فلماذا لا يُسامح الأسدَ على ما فعله بشعبه، أسوة بالقادة العرب الذين أعادوه إلى أحضانهم؟ ألا يرى أنهم مستمرون؟ يفعلون هذا رغم تجاهله لمطالبهم، واحتقاره لها، عبر منح المزيد ثم المزيد للإيرانيين الذين يهدفون إلى الاستيلاء على المنطقة كلها، وإلحاقها بإمبراطورية الولي الفقيه؟!
ألم ينجح بإلباس الثورة "المدنية الديموقراطية" بالتعاون مع عصبة الجهاديين من "أخوة المنهج" الذين أطلقهم من سجونه، اللباس المناسب للدور المرسوم لهم في صناعة المشهد؟
يصرخ الصوت اللاواعي في عقول الجماعة الأسدية بالقول: يجب أن تقبل الدول العظمى بهذا الخيار، طالما أن لهذا النظام دور وظيفي متفق عليه، ألم تكن استراتيجيته دائماً هي الإيحاء للعالم بأنه يدافع عنه في مواجهة الإرهاب الأصولي؟ ألم ينجح بإلباس الثورة "المدنية الديموقراطية" بالتعاون مع عصبة الجهاديين من "أخوة المنهج" الذين أطلقهم من سجونه، اللباس المناسب للدور المرسوم لهم في صناعة المشهد؟ وانتهى الحال بشبابها وصباياها، مشتتين حول دول العالم يبذلون الجهود في شرح الحقائق للآخرين، ورد الاتهامات عن حراكهم المُباد، بدلاً من أن يحكوا لهم عن حلم الحرية!
كل مرة نجد أنفسنا مضطرين للعودة إلى أوليات السردية التي صنعتها ثورة 2011، طالما أن كل يجري مازال ملتصقاً بتفاصيلها، ولاسيما الانتفاضة الشعبية الحاصلة حالياً في مدينة السويداء، التي تؤكد لنا ولغيرنا أن ما يجري في ساحة الحرية والكرامة، إنما هو الوجه الناصع للحكاية التي بدأت قبل 13 سنة.
وبالإضافة إلى ذلك، يلعب منطق الترويج الأسدي لنفسه دوراً في تحريض السوريين الثائرين لاسترجاع تاريخهم، في مواجهة ما يجعله النظام صورة لإنجازاته، وبما يرسم المشهد على حقيقته دون عناء؛ هنا ثمة ديكتاتور وزوجته يزدهيان بصورهما على الشاشات، بوقاحة قل نظيرها، يستهينان فيها ليس بضحاياهما فقط، بل بجموع مؤيديهما الذين صاروا جحافل من الجوعى الحالمين بمغادرة السفينة التي يمسكان بدفة قيادتها!
وفي المقابل هناك جموع من الثائرين المنتفضين ضد الاستبداد، ما برحوا يداومون على النزول إلى الشارع لإعلان مطالبهم التي رسمها المجتمع الدولي عبر القرار رقم 2254، الصادر عن مجلس الأمن في 18 ديسمبر 2015، والمتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية تفضي إلى الانتقال السلمي للسلطة.
هل ثمة بلاغة مشهدية أفضل من هذه التي تصنعها محاولات النظام حين يجتهد في رسم انتصاراته التسويقية لها؟
لا يمكن لبضع لقطات مصورة أن تقلب الحقائق، فهي مصنوعة لتخدم سعياً محموماً لاستعادة مكانة، وادعاء سيادة
القصة جلية وواضحة، رغم كل ما يكتنفه مشهد السيطرات التي انتهى حال سوريا إليها بحجة الثورة من تفاصيل لا يمكن تجاهلها في إطار التفكير بالواقع وآليات إيجاد حلول للأزمات المتراكمة في البيئات المحلية. ورغم كل التعقيدات التي يفرضها التدخل الخارجي المتعدد.
وكما أن حلم السوريين بالتخلص من زمرة الإجرام الحاكمة، قابل للتحقق كما تحققت رغبات شعوب أخرى قبلهم، لا يمكن لبضع لقطات مصورة أن تقلب الحقائق، فهي مصنوعة لتخدم سعياً محموماً لاستعادة مكانة، وادعاء سيادة، لا تخرقهما فقط الغارات الإسرائيلية على مواقع الميليشيات الإيرانية المنتشرة في مناطق سيطرة النظام، بل تترادف معها في السياق الأخبار المتداولة، عن احتقار الضباط الروس للأسد وجيشه، فهم لا يمنعونه من مرافقة بوتين في خطوات قليلة على الأرض السورية، بل يبرعون في شتمه أمام ضباط من قواته المسلحة، يشتكون لمرؤوسيهم الإهانات التي يتلقونها من شركائهم في قتل المدنيين في الشمال، دون أن تتحرك حاسة الكرامة لدى هؤلاء، فهم يعرفون أنه لا قيمة لهم عند القائد العام، طالما أن الأولوية هي للبقاء على رأس السلطة، وأنهم مجرد "فْعَالة" أو حثالة، يتصدق عليهم في المناسبات بالجعالات!
انقضت سنة، وربما تعقبها أخرى، وأخريات، لكن شيئاً لم ولن يتغير: لن تعود سوريا إلى طاعة النظام، حتى وإن نفخ العالم الروح في جيفته المتفسخة.