جرياً على عادة السياسيين الأميركيين والأوروبيين الذين يتقاعدون، أو يخرجون من مناصبهم، فتصدر عنهم تصريحات، قد تعاكس النهج السياسي الذي عملوا وفقه طوال سنوات عملهم؛ تحدث يوسف بن علوي وزير خارجية سلطنة عُمان السابق في أول لقاء تلفزيوني له بعد التقاعد، عن أن المنطقة تحتاج إلى ربيع عربي ثانٍ، وأن الأوضاع قبل حدوث الربيع العربي عام 2011، تتشابه مع الأوضاع الحالية في معظم الدول العربية!
بالطبع، لا يختلف أي من المنغمسين في شؤون ثورات الربيع العربي مع هذه التصريحات، فهي تؤكد على فكرة صلبة، تقول إن التغيير لم يكن أبداً مسألة كيفية أو اختيارية، بل هو سيرورة حتمية، ولكن المسألة الملحة أمام الأنظمة العربية وحكوماتها، هي إما القدرة على ركوب رياح التغيير، والقبول بنتائجه، أو رفض التعاطي معه ومنعه، حتى وإن أدى ذلك إلى الخراب.
ضرورة التغيير كفكرة ملحة، ترتبط بمعادلات مجتمعية واقتصادية وسياسية، لم تعد تظهر على سطح الحوارات التي تدور حول الأوضاع في البلدان التي شهدت الموجة الأولى من الانتفاضات، بسبب الغرق بتفاصيل الدمار الذي أحاق بالشعوب الثائرة.
فبدلاً من استغلال الوقت الثمين بتَخيّر أفضل السبل للارتقاء بأحوال الناس، وكيفية استثمار القوى المنتجة في المجتمع، من أجل تحسين أوضاع الفئات الأشد فقراً، والمضي بخطط تنموية مثمرة؛ تحولت توجهات نخب سياسية عربية إلى محاكاة شديدة التطابق، مع رؤى الأنظمة، التي ترفض التغيير! وبدلاً من النظر إلى دوافع الشباب العربي للانضمام إلى الحراك، صار التأكيد على وجهها "الإخواني" حتى وإن كان عبر التلفيق والكذب، هاجساً لدى مثقفي الثورات المضادة، الذين يجدون الإلهام في آراء محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، والرزق في المنابر التي تأتمر بأمره وبأمواله!
لا بد من الإشارة إلى أن كثيرين يجدون تناقضاً واضحاً بين سياق الممارسة السياسية الحكومية التي اتبعها بن علوي، وبين فكرته عن أن المنطقة تحتاج إلى موجة تغيير إضافية.
لدى هؤلاء، يمكن وبكل بساطة إسباغ اللباس الأصولي على أي شخص يرى إيجابيات الربيع العربي قبل سلبياته، فكيف سيكون الحال مع زعيم الدبلوماسية العمانية، الذي أمضى ربع قرن من الزمن إلا عامين في منصبه، فخَبِر وعاصر أهم تحولات المنطقة، وتغيراتها، وحروبها.
بالتأكيد، لم تمر تصريحات بن علوي دون أن يتعرض لانتقادات هنا وهناك، مع بعض الاتهامات بقصر النظر، وعدم القدرة على تمييز الآثار المدمرة للربيع الأول، وبالتالي عدم فهم ما تعنيه مثل هذه التصريحات التي تبشر بربيع ثانٍ.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن كثيرين يجدون تناقضاً واضحاً بين سياق الممارسة السياسية الحكومية التي اتبعها بن علوي، وبين فكرته عن أن المنطقة تحتاج إلى موجة تغيير إضافية.
فقد لعبت السلطنة أدواراً غير مطمئنة في العلاقة مع عائلة الأسد، وهو يشير في اللقاء الذي حمل تصريحاته إلى هذه العلاقات، كما أن لبلاده صلات تاريخية وثيقة مع النظام الإيراني، منذ أيام الشاه وحتى أيام حكم الملالي، بالإضافة إلى العلاقة غير المخفية مع إسرائيل، فضلاً عن ملفات كثيرة شائكة، يرى المدقق فيها آثار بصمات سياسية عُمانية، لا تميل إلى أحلاف واضحة، لكنها لم تكن يوماً ضد أي نظام من الأنظمة البائدة، لا بل إنها سعت كثيراً إلى أن تؤمن الغطاء الدبلوماسي، لاستمرار نظام مستبد وقاتل كالنظام السوري، في إطلالاته من خلالها على المنابر العربية.
الأمر ليس غريباً، فهو مخلص لسياسة ومصالح النظام الذي يمثله، ولهذا لن يقوم أثناء وجوده على رأس عمله بأي فعل يخل بهما، وهو الآن خارج منصبه لا يقول شيئاً يتناقض مع تاريخه السابق، ولا حتى مع الحدث العماني الداخلي، فهو يمتدح المرحلة السابقة، لا بل إنه يشيد بسياسة السلطان الراحل قابوس، حينما أمر القوى الأمنية والجيش – بحسب كلامه - بعدم الصدام مع المحتجين في عام 2011.
ولكن في المقابل، يمكن النظر إلى تصريحات بن علوي من باب كونها آراء تقال في الصالونات التي يرتادها المتقاعدون، على سبيل تزجية الوقت، فهي غير ذات قيمة، على المستوى العام، فقد تجاوز الشباب العربي من المغرب وحتى بغداد وصنعاء مثل هذه الأقوال، لا سيما أننا نشهد ومنذ سنوات حراكاً ثورياً مستداماً أطلق عليه صفة الموجة الثانية من الربيع العربي، أفضى إلى التغيير السياسي في السودان، وإبقاء الجزائر على أهبة الاستعداد لوقائع محتملة في الفترة القادمة.
هل مرر الوزير الذي اشتهر بالدقة في عمله، وبالصمت، مثل هذه الإشارة بشكل مجاني؟
ولكن ثمة بقعة واحدة سقطت من حيز كلامنا، هي منطقة الخليج العربي، التي مرت في حديث بن علوي، والتقط كثيرون إشارته حولها، حين وضعها وسط احتمالات الربيع القادم.
فهل مرر الوزير الذي اشتهر بالدقة في عمله، وبالصمت، مثل هذه الإشارة بشكل مجاني؟
بالتأكيد لا، خاصة أن مقياس خطورة مثل هذه الإشارات، سيرتفع نحو الأعلى، حينما نستعيد رسم الخريطة الخليجية، في مثل هذه الظروف، حيث يتم وزن الكلام بدقة، قبل وضعه أمام الجمهور، في فترة حرجة، تمترست بعض الدول فيها وراء الثورات المضادة، التي وقفت ومازالت في وجه إرادات الشعوب.
ألا تحمل سنونوات الربيع الخجولة بعضاً من تباشيره؟ وربما يكفي لكي يتعكر صفو داعمي الديكتاتوريات، بعد أن سمعوا مثل هذا الكلام من شخصية ثقيلة مثل يوسف بن علوي؟
تفاصيل كثيرة في دهاليز السياسة العربية، يصمت الجميع حولها، لكن الحقائق، لا ينطق بها سوى المتقاعدين.