ستيفان زفايج (شتيفان تسفايغ) أديب نمساوي ذاع صيته في الشطر الأول من القرن العشرين. حصل في سنواته الأخيرة على الجنسية البريطانية، وربما شكلت أصوله اليهودية أزمة مستمرة في زمن الحرب العالمية الثانية، فكانت حياته تتسم بالقلق والخوف المستمر، وربما حدا به كل هذا للسفر المستمر بين دول شتى، إلى أن استقر أخيراً في البرازيل، وهناك كتبَ كثيرًا من رسائله التي اشتهر بها، وهناك أيضاً أنهى حياته التي كانت بالرغم من كل أسباب الدعة ووفرة المال بين يديه، حياةً يسري البؤس فيها كما يسري الدم في عروقنا، الأمر الذي حداه إلى إنهاء حياته منتحراً.
يوثق ستيفان زفايج في رسائله في أميركا اللاتينية بين عامي "1940-1942" رحلاته ولقاءاته وما مر به من أحداث، كما أسهب في وصف حياته اليومية وتفاصيلها مقيماً عبرها جسراً مستمراً من التواصل مع بقايا أسرته وهم شقيق زوجته "لوت" (مانفريد وزوجته هانا).
كانت معظم تلك الرسائل التي ربت على مئة وتسعين رسالة، تعبيراً ملحاً عن حاجة هذا المهاجر إلى وطن من العلاقات الحميمة الحقيقية، يستعيض به عن وطنه الضائع في رحى حربٍ، كانت حصيلتها ما يزيد على ستين مليون قتيل على أقل تقدير، كما كانت أخبار الإبادة التي يتعرض لها اليهود في أوروبا على يد النازيين تزرع الرعب واليأس في نفسه، وهي إلى ذلك تفضح حالة الخواء العميق التي يعيشها هذا المهاجر وزوجته، بالرغم من كل مظاهر الحفاوة والترحاب التي تحفهما أينما حلّا.
ولنا أن ننظر إليه وهو يكتب رسائله بمعدل رسالتين أسبوعياً، لندرك مدى القلق العارم الذي يدفعه للخوض في أبسط تفاصيل حياته اليومية هو وزوجته "لوت".
ربما ندرك نحن السوريين المهاجرين اليوم، الأهمية الملحة للتواصل اليومي مع من بقي من أهلنا في الداخل السوري، فهو إضافة إلى تلبية حاجة الاطمئنان عليهم، وسيلة للتأكيد أننا ما زلنا أحياء وعلى قدر من الحضور في وطن لم نعد نعيش فيه، وربما لن يعد بإمكاننا زيارته ثانية.
تريد رسائل زفايج أن تكرر بإصرار "أننا مازلنا هنا، قريبون ومتابعون ومتضامنون مع من بقي، بالرغم من إبعادنا القسري جغرافياً، نحن غير بعيدين عن القلب وإن كنا بعيدين عن العين، هذه رسائلنا تنوب عنا في سرد الحكايات والأخبار، وهذه رسائلكم تنقلكم إلينا رغم تباعد المسافات".
يوثق ستيفان زفايج في رسائله في أميركا اللاتينية بين عامي "1940-1942" رحلاته ولقاءاته وما مر به من أحداث، كما أسهب في وصف حياته اليومية وتفاصيلها
في كثير من رسائلهما "رسائل زفايج وزوجته لوت" تختم الرسالة بالتأكيد على انتظارهما للرد السريع على رسالة لم تحك سوى بعض تفاصيل عادية لحياتها، فالرسالة بحد ذاتها هي المقصد ولا أهمية البتة بما تحمله من أحداث أو أخبار، ولأكثر من مرة نجد زفايج وزوجته يجلسان إلى درج البيت الخارجي ينتظران وصول رسالة قد لا تصل إلا بعد أيام: "مضى ما يقرب من شهر منذ وصلت رسالتك الأخيرة، نمضي الفترة الصباحية بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة جالسين على السلم في الواجهة في انتظار ساعي البريد". فأوروبا تعيش حالة حرب طاحنة، تجعل من وصول الرسائل بوقتها المعهود أمراً صعب المنال.
في ثنايا تلك الرسائل يطل وبإلحاح، شعور مستمر بالإحساس بالعار أو الإثم الذي يعتري الهارب من جحيم الحرب، إلى مدن أكثر أماناً، هذا الإحساس تجاه من بقي من أهله وأصدقائه، أولئك الصامدون أو المقهورون الباقون في مدن الجحيم، وبالرغم من كل محاولاته مد يد العون لهم بتركهم في بيته يسكنون فيه، وبإرساله المعونات المالية بشكل مطرد، إلا أنه لا ينجو من هذا الشعور المنهك، وبعد ثمانين عامًا من رسائل زفايج، يعيش السوريون المهجّرون اليوم الحكاية ذاتها، وربما بتفاصيل أشد قسوة.
في رسائله الأخيرة يتبدى بوضوح حالة فك الارتباط بهذه الحياة التي لم تعد تشبه الحياة، فكل تلك الحفلات والسهرات والرحلات، ظلالٌ عابرة ما تلبث أن تنكشف عن حقيقة صلبة سوداء، أنهم غرباء ولاجئون وربما هاربون، من بلاد لم تعد تعدهم سوى بالموت، لنجده في نهايتها يزهد بكل شيء، ويتملكه الشعور المفزع باللامبالاة العميقة، حيث تفقد الأشياء نكهتها ومعناها، ويصبح التكلف السائد شكل الحياة الرتيبة.
كل هذا يضع زفايج وزوجته أمام خيارهما المريح، وهو إنهاء حياتهما التي لم تعد تطاق، ففي يوم 21 شباط عام 1942 جلس في بيته الكبير "في البرازيل" يكتب رسائله الأخيرة لأصدقائه ومعارفه، مرسلاً تحية وداع أخيرة، معللاً لهم أسباب انتحاره، وقد كتب يومذاك مئة واثنتين وتسعين رسالة، ثم دلف إلى حجرة النوم بعد أن تناول كميةً قاتلةً من الحبوب المنومة "الفيرونال"، واستلقى إلى جوار زوجته لوت، وقد فعلت الشيء نفسه.. وتعانقا عناقهما الأخير، وماتا معاً.
كتب في رسالة الوداع إلى زوجته الأولى: "أكتب لك هذه الرسالة وأنا في الساعات الأخيرة من حياتي. لا تتصوري كم أنا أحس بالسعادة بعد اتخاذي هذا القرار".
في تعليقه على انتحار زفايج، كتب معاصره الأديب الألماني "توماس مان":
"إنه أناني! لم يفكر إلا في نفسه عندما انتحر، ألا يعرف أن جميع الكتاب الألمان يعيشون في فقرٍ مدقعٍ، وهم يبحثون عن لقمة الخبز؟ فبعد أن شردهم هتلر بوحشيته وهمجيته في جميع أقطار الأرض، أصبحوا أذلاء يقفون على أبواب الناس. وأما هو فكان معززاً مكرماً يعيش عيشة الملوك ومع ذلك فقد انتحر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسائل ستيفان زفايج
ترجمة وتقديم: ميسرة صلاح الدين
صدرت عن بيت الياسمين 2020