icon
التغطية الحية

"حياة الماعز": مأساة هندية في صحراء العرب.. عمل سينمائي أم إساءة مغلّفة؟

2024.08.24 | 05:50 دمشق

آخر تحديث: 24.08.2024 | 15:20 دمشق

نجيب الهندي
الفيلم الهندي "حياة الماعز"
تلفزيون سوريا - سعيد اليوسف
+A
حجم الخط
-A

أثار الفيلم الهندي "حياة الماعز" الذي عُرض على منصّة "نتفليكس" ضجة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب قصته التي أغضبت الخليجيين، خاصّة السعوديين، لما يتناوله من أحداث وُصفت بـ"المسيئة" لهم، والمضلّلة عن نظام الكفيل.

و(نظام الكفيل أو الكفالة) في السعودية، هو نظام قانوني كان -قبل إلغائه أواخر عام 2020- يربط بين العمّال الوافدين وكفلائهم، ويعني أن يجلب مواطن سعودي الذي هو صاحب العمل، عاملاً من أيّ بلد -العمالة الأكبر غالباً من الهند وبنغلاديش- على أن يكون كفيلاً له ومسؤولاً عنه وعن إقامته وكل تفاصيله، وغالباً هذا النظام يجعل العمّال عرضة للاستغلال وسوء المعاملة.

وقصة فيلم "حياة الماعز" تعتبر -بحسب مخرجه ومنتجه الهندي بلايسي- تجسيداً لقصة حقيقية بطلها المهاجر الهندي (نجيب) -جسّد دوره (بريثفيراج سوكوماران)- الذي اختُطِف واستُعبِد ليعمل راعياً في صحراء السعودية، على يد مواطنٍ سعودي اختطفه مدّعياً أنّه "كفيله"، جسّد دوره الفنان العُماني طالب البلوشي.

قصة الفيلم؟

يَعرض الفيلم في 173 دقيقة، قصة الشاب الهندي (نجيب)، الذي قدِم إلى السعودية للعمل بناءً على "نظام الكفيل"، لكنّه لم يلتقِ بكفيله في المطار، ووجد نفسه حائراً أمام مواطنٍ سعودي ادّعى أنه كفيله وكفيل صديقه الهندي (حكيم) -القادم برفقته للعمل أيضاً- وأخذهما في سيارته ونقلهما إلى وسط الصحراء، قبل أن يفرّق بينهما هناك، حيث عاشا لسنوات حياةً أقرب إلى العبودية وهما يرعيانِ الإبل والأغنام، في مكانين مختلفين بالصحراء.

بعد نقل (نجيب) إلى الصحراء، يجد نفسه معزولاً تماماً عن العالم، وحيداً مع خاطفهِ الذي لا يتحدّث سوى العربية التي يزجره بها كلّما أراد استفساراً أو استفهاماً بالقول "كافي كر.كر.كر" (إشارة إلى توسّلات نجيب المتكرّرة وغير المفهومة)، إلى جانبِ راعٍ هنديٍ آخر، كان لا يتقن اللغة المالايالامية التي يتحدّث بها نجيب، لذا لا مجيب لتوسّلاته المتكرّرة بأنّه باع كل شيءٍ في بلاده وغادر عائلته، سعياً وراء وظيفة موعودة في مكتب لا صحراء.

تتصاعد الأحداث ليظهر (نجيب) بعد أسابيع وقد تكيّف مع ظروفه القاسية والمهينة، واستسلامهِ أمام فشل محاولات الوصول إلى طريقٍ أو هاتف أو ورقة أو حتّى قلم، حيث يبقى وحيداً -طوال الوقت- مع الإبل والأغنام والماعز، يشاركها شرب الماء من الحوض ذاته في صحراء يكتوي بحرارتها الشديدة وشمسها الحارقة، التي أخفت معالم وجهه تماماً، وفشلت مرآة السيّارة في تذكيرهِ بها، قبل أن يكسرها خاطفه.

الفيلم يصوّر سلسلة من المشاهد المأساوية، حيث المعاملة الوحشية التي يتلقّاها (نجيب) من قبل خاطفهِ السعودي، عبر تعنيفه وتجويعه وإذلاله، فضلاً عن مصير الراعي الهندي السابق، الذي شاخ وفقد عقله حتى مات في الصحراء وتُركت جثّته كـ"جيفةٍ" تأكلها النسور.

ستنتهي مأساة (نجيب) برحلةِ هروبٍ شاقّة، حرّضه عليها صديقه (حكيم)، الذي التقى به مصادفةً خلال رعيهما في الصحراء، ثم ترك له رسالةً بين الرمال يخبره بها عن موعد الرحلة وعن عرّابها، الرجل الإفريقي المسلم (إبراهيم قادري).. سيموت حكيم، سيختفي قادري وينجو نجيب.

نجيب الهندي

بعد وصوله (نجيب) إلى طريقٍ معبّد في الصحراء، وعدم استجابة بعض السيّارات المارّة لاستغاثته، تتوقّف سيارة لرجل سعودي ثري يساعده وينقله إلى أقرب مسجدٍ وسط المدينة، وهناك يعثر عليه عمّال هنود يُسعفونه ويعتنون به، قبل أن يبّلغوا عن حالته لدى السلطات، بسبب فقدان أوراقه الثبوتية، التي سبق أن مزّقها خاطفه.

في مديرية الهجرة، يُسلط الفيلم الضوء على القسوة في تعامل السلطات السعودية مع العمّال المجهولين من الأجانب، كما يصوّر ظروف السجن المزرية التي يعيش فيها العمّال، وكيف يُعرضون كأنّهم "دواب" ويُسمح لـ"الكفلاء" بتفقّدهم وأخذ مَن يخصهم منهم بطريقة تبدو "همجية"، ثم بعد شهرين يُرحّل (نجيب) إلى الهند، مع إشارة الفيلم في ختامهِ، إلى أنّ ما حدث له ليس حالة فردية، بل تجربة شبيهة يمر بها الآلاف من العمّال.

"جدل وانتقادات"

رغم أنّ مخرج "حياة الماعز" أدرج في مقدمة فيلمه ملاحظة تقول: إنّ "الفيلم لا يقصد الإساءة لأيّ بلد أو شعب أو مجتمع أو عرق"، خشيةَ أن يثير جدلاً مع السلطات السعودية، التي تضم مئات آلاف العمّال من الجنسية الهندية، إلّا أنّ الفيلم أثار الجدل فعلاً على مواقع التواصل الاجتماعي.

تباينت وجهات النظر حول الفيلم، بين مَن يرى فيه تضليلاً متعمّداً باعتبار أنّ الفيلم لا يتناسق مع الحقيقة وفيه الكثير من المبالغة، وأنّه يندرج ضمن المحاولات المستمرة في "تشويه" صورة السعودية، خاصّةً أنّ القصّة الحقيقية قديمة جدّاً ومختلفة عمّا رواه الفيلم، وبين مَن يرى فيه عملاً إبداعياً سلّط الضوء نوعاً ما على نظام الكفالة المجحف بحق العمّال الأجانب في السعودية.

وبينما يرى البعض أنّ الفيلم بالغ في التركيز بشكل كبير على معاناة فرد واحد وما تعرّض له من عنفٍ جسدي ونفسي قد يخلق صورة نمطية عن العمّال المهاجرين كضحايا دائمين في دول الخليج، يرى آخرون أنّ الفيلم مجرّد قصّة عن تجربة شخصية وواقعية لإنسان تعرّض للظلم والاضطهاد، وكما أشار إلى ظلم أحد المواطنين السعوديين، أشار إلى إنسانية آخر ساعده.

ومن الانتقادات التي وُجّهت إلى الفيلم، المشهد المتعلّق بالنظافة والرائحة الكريهة، الذي كان في بدايته، معتبرين أنّه لم يكن منطقياً كثيراً وهو أقرب إلى التمييز والسخرية المتعمّدة، وهو مشهد امتعاض (نجيب) وصديقه (حكيم) من رائحة الكفيل/ الخاطف، وإشارتهما -المضلّلة- إلى أنّ العرب يستحمون بـ"بول الإبل"!

"جنة الهند ونار السعودية"

صحيح أنّ فيلم "حياة الماعز" قدّم تسليطاً لاذعاً على معاناة العمالة الوافدة إلى السعودية، رغم أنّه يحكي قصة شخصية لشخص واحد تعرّض للظلم على يد مواطنٍ واحد أيضاً، لكن الأحداث تثير بعض التساؤلات حول سياق أوسع للمأساة غابت في الفيلم، كمسؤولية البلد الأم للمُضطهد (نجيب)، الهند، ومسؤولية نجيب نفسه.

ورغم أنّ الفيلم أشار إلى تأثير نظام الكفيل من خلال تصوير القسوة التي عانى منها (نجيب) بسبب هذا النظام، وركّز على الأبعاد الإنسانية لمأساة العمالة الوافدة، لكنّه في ذات الوقت أغفل الجوانب الأعمق لمأساة (نجيب)، التي دفعته -ومئات آلاف الهنود- إلى الهجرة من بلده الأم، حيث الفقر والجوع والاضطهاد أيضاً.

وعمَد الفيلم إلى مقارنة -يبدو أنّ فيها الكثير من التحيّز- بين حياة الجنّة والسعادة التي كان يعيشها (نجيب) في مومباي الهندية وبين حياة "الجحيم" في السعودية التي هاجر إليها، بحثاً عن عمل، لا وفق مبدأ أنّ الوطن يبقى غالياً، إنّما عبر مشاهد الطبيعة الخلّابة والأنهار والعلاقة الطيبة بين الهنود، حيث تعامل المخرج بواقعية مع البيئة القاسية التي عاشها نجيب في السعودية، بينما تعامل بسطحية مع المشاهد في الهند.

لم يُشر الفيلم أبداً إلى وجود المسؤولية المشتركة للجميع في مأساة (نجيب)، خاصّة بلده الهند، التي ينتمي إليها، وهي التي تواجه العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وتسجّل نسباً مرتفعة في معدّلات الفقر، والبطالة، فضلاً عن اضطهاد المسلمين، وهذه العوامل تدفع ملايين الهنود إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل، ما يجعلهم عرضة للاستغلال في البلدان الأُخرى، كان من الممكن أن يلّمح الفيلم -حوارياً على الأقل- إلى هذه النقطة، لتقديم سياق أوسع لمأساة نجيب.

"توفّر الوسائل وغياب المقاومة"

ليست بلاد (نجيب) فقط، بل حتّى بلادته تتحمّل قسماً كبيراً من مسؤولية اضطهاده والاستمرار فيه، فرغم كل الأدوات التي كانت تُحيط به من بندقية، وعصي، وحجارة، وخراطيم.. كان يمكنه استخدامها لصالحه في التغلّب على الكفيل/ الخاطف أو تهديده، أو تعطيل سيارته على الأقل.. لكنّه لم يفعل، بل اكتفى بالتوسّل ثم الاستسلام، ما يثير جدلاً حول مدى واقعية هذه التصرفات فعلاً!؟

وقد يكون استخدام (نجيب) لتلك الأدوات مجرّد محاولات يائسة بائسة، لكنّها ستبقى أفضل من حلوله التي ركن إليها: أوّلها: الإلحاد ونكران الذات الإلهية: "لماذا أناجي الله؟ لماذا أصلي لله؟ لو كان هناك إله لما كان هذا مصيري!"، بالتزامن مع إظهار الفيلم -بشكل متكرّر- أنّ الدين بالنسبة للسعوديين ليس أكثر من طقوس وعادات في حياتهم اليومية، إذ لا بأس لديهم في ممارسة الظلم وهم يذكرون الله!

ثم الحل الثاني الذي لجأ إليه (نجيب) وهو "الانتحار"، قبل أن يتراجع عنه بعد أن دّب في قلبهِ الرعب عندما رأى جثّة الهندي السابق، الذي نقل إليه اليأس وفقدان الأمل، وانتهى مصيره جثّةً تأكلها النسور.

وإن كانت هذه "السلبية" التي أبداها (نجيب)، نتيجة للصدمة النفسية التي تعرّض لها وتضاعفت مع الوقت، إلّا أنّ اليأس عصف به فوراً، وظهر طوال الوقت شخصاً مستكيناً راكناً ومتقبِّلاً للظلم، فضلاً عن "هندية" مشهد الهروب -الحل الأخير (المتأخّر)- والذي حرّضه عليه صديقه "حكيم" الذي مات تعباً وجوعاً وعطشاً خلال الرحلة.

والتساؤل المثير هنا: لماذا بعد توفّر ظروف الهروب وغياب الكفلاء، لم يُحضّروا للرحلة الشاقّة بشكل كافٍ ولم يستفيدوا من بعض الموارد المُتاحة، لماذا لم يتزوّدوا ببعض التمر والماء!؟ لماذا لم يفكّروا بسرقةِ جملٍ واحد -على الأقل- يكون عوناً لهما في رحلة الهروب القاسية عبر الصحراء، التي نظّمها وقادها الرجل الإفريقي المسلم (إبراهيم قادري)، شخصية حضرت واختفت في مشهد سريالي/ هندي، وكأنّه الخضر، علماً أنّ نجيب وصفه بالنبي موسى.

"إبراهيم قادري".. القدر والتضحية

لو لم يجد الهندي (نجيب) صورة الإفريقي المسلم (إبراهيم قادري) على لائحة المطلوبين في مركز الشرطة، لكان بالإمكان اعتبار هذه الشخصية مجرّد تجسيدٍ للقدر -ربّما اسمه الثاني دلالة على ذلك- الذي كان نقطة تحوّلٍ في مصير نجيب، فقد كانت مصدر الدعم النفسي والأمل الذي حفّزه على الصبر والتحدّي والمقاومة وتجاوز الصعاب، كما أنّه كان مثلاً للتضحية، إذ اختفى في رمال الصحراء تاركاً وراءه عبوة ماء كآخر طوق نجاة لـ نجيب، يحثّه على الاستمرار في رحلته والوصول إلى هدفه.

إبراهيم قادري

ولو لم يُسلّط الفيلم الضوء على شخصية سعودية توقّفت لاستغاثة (نجيب) على الطريق وهدّأت من روعه ونقلته إلى وسط المدينة، لربما كان المشهد الذي أظهر "قادري" -عبر صورة- على أنّه مُطلوب، متعمّدة أيضاً، وتشير إلى أنّ "الاضطهاد والواقع المرير والملاحقة في هذه البلاد، لا تقتصر على العمّال الأجانب فقط، بل يمتد أيضاً إلى أولئك الذين يقدمون لهم المساعدة".

فيلم وراوية "حياة الماعز"

"حياة الماعز" (The GOAT Life) أو "Aadujeevitham/ أدوجيفيثام" بحسب لغة الفيلم المالايالامية-الهندية، بات أحد أكثر الأعمال السينمائية التي جذبت الانتباه مؤخراً على منصة "نتفليكس"، وتصدّر قائمة الأعلى مشاهدة منذ طرحه لأوّل مرة يوم 19 تموز الفائت، بعد عرضه في دور السينما في 28 آذار 2024، كما حقّق أرباحاً كبيرة في الأسبوع الأوّل من عرضه تجاوزت الـ10 مليون دولار.

نجيب الهندي

الفيلم مقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم (حياة الماعز/ Aadujeevitham) صدرت عام 2008 للمؤلف الهندي بنيامين، وهي تصوّر محنة فقراء الهند الذين يسعون إلى طلب الرزق في الشرق الأوسط، وتسلّط الضوء على قسوة حياة المهاجرين في دول الخليج، خاصّةً السعودية.

والرواية -بحسب كاتبها- مستوحاة من محنة حقيقية لرجل يحمل نفس الاسم (نجيب)، اختُطف في التسعينيات بالسعودية، وتمكّن من الفرار بعد خمس سنوات، وتعدّ من أكثر الروايات قراءة في ولاية كيرالا جنوبي الهند، والتي تتحدث اللغة الماليالامية، وقد صدرت منها الطبعة الـ250 هذا العام.

"ولاية كيرالا" والعمل في الخليج

نحو مليوني هندي و100 ألف -من ولاية كيرالا (مسقط رأس نجيب) جنوبي الهند- يعيشيون ويعملون في الخارج، قرابة 90% منهم هاجر إلى دول الخليج، حيث يعيش معظم هؤلاء العمّال الذي ينحدرون من عائلات فقيرة كادحة، في ظل نظام الكفالة.

وتشير العديد من التقارير الإخبارية إلى أنّه "مما لا شك فيه، أنّ الأجور التي أرسلها العمّال إلى ذويهم في ولاية كيرالا، ساهمت في دعم اقتصاد الولاية، حيث أظهر مؤشر مؤسسة بحثية حكومية، أنّ كيرالا لديها أدنى معدل للفقر في الهند".

وبحسب إحصائيات خليجية، فإنّ أكثر من 9 ملايين هندي تقريباً يعيشون في عموم دول الخليج، ويعدّون كأكبر جالية في العالم من أصل 58 مليون نسمة (عدد سكّان الخليج)، وهم يشكّلون فعلياً: (33% من نسبة سكّان الإمارات، 28% من سكان الكويت، 25% من سكان قطر، 20% من سكان البحرين، 15% من سكان سلطنة عُمان، 7% من سكان السعودية).

قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏نص‏‏

الجدير بالذكر أنّ ملايين الأفراد في الهند يعيشون فقراً مدقعاً وظروفاً اقتصادية صعبة، ويعانون من نقص في الموارد الأساسية مثل الغذاء والرعاية الصحية، كما أنّ البطالة تمثل مشكلة كبيرة، خاصة بين الشباب الذين يواجهون صعوبة في العثور على فرص عمل ملائمة، وذلك رغم وجود مئات المليارديرات من رجال الأعمال الهنود، الذين يعكسون نجاحات هائلة في ظل ازدهار اقتصادي وتقدّم تكنولوجي تشهده الهند، الذي تجاوز عدد مواطنيها المليار ونصف المليار.