منذ أن شعر معظم السوريين أن الوضع في سوريا يذهب إلى حيث لا يريدون، وأن كل السبل التي اختاروها للوصول إلى أهدافهم لم تصل بهم إلا لخراب أكثر، كان من الطبيعي أن يحاولوا اجتراح سبل أخرى، وكان من المفترض بداهة أن تكون دروس الفشل السابق حاضرة في محاولات بحثهم الجديدة، لكن – وللأسف – فإن ما نشهده اليوم من سيل الدعوات والتحضيرات لاجتماعات ومؤتمرات، وما تمتلئ به وسائل التواصل الاجتماعي، والاتصالات الشخصية، من أوراق، ونصوص، وحوارات هو إعادة التجارب السابقة إياها، لكن باستبدلات شكلية لن يكون لها أي جدوى.
لم تستعر هذه الاندفاعة بسبب الفشل فقط، بل جاءت أيضا لسبب آخر، وهو خطورة الاحتمالات التي تواجهها سوريا وشعبها والناجمة عن القمع المجنون، واستكلاب النظام للإمساك بالسلطة بغضّ النظر عن الثمن، وعن مدى خطورة انتزاع قرار الشأن السوري من يد السوريين، وانتقاله لأيدٍ خارجية.
غالباً ما يكون هاجس المؤتمرين هو إنجاز وثائق، ورؤى بصياغة تنافسية مع أوراق أخرى سبقتها، أو طرح أفكار جديدة تولّدها الرغبات والأحلام وليس الواقع والضرورة
ورغم الضرورة الماسّة لأن يسارع السوريون لاستعادة قرارهم، وللبحث عن فعل يفوّت الفرصة أمام احتمالات تفتيت سوريا، وتدميرها الكامل، إلا أنهم ما يزالون يدورون في الحلقة المفرغة التي ابتلعتهم منذ عقود، وما تزال السياسة بالنسبة لهم فعلا فوقياً، لغوياًَ، يتخبط في المفاهيم، لكنه لا يلامس الواقع، ولا تتهجى حروفه، هذا العمل السياسي الاعتباطي المنفعل، والذي غالبا ما يدير ظهره للحقائق لن ينتج إلا الفشل، هذا إذا افترضنا حسن النية، وافترضنا أن تجاهل الحقائق ليس لغايات غير بريئة.
غالباً ما يكون هاجس المؤتمرين هو إنجاز وثائق، ورؤى بصياغة تنافسية مع أوراق أخرى سبقتها، أو طرح أفكار جديدة تولّدها الرغبات والأحلام وليس الواقع والضرورة، كأنّما الصراع هو صراع بيانات وصياغات، ولهذا يحاول الجميع أن تكون أوراقهم مسبوكة بإتقان، ويختلفون كثيراً عند صياغتها، وربما يفترقون على عداوات حقيقية حول كلمة هنا أو هناك، فالمهم هو اكتمال النص، وليس المهم هو مدى ملاءمته للواقع، ومدى قدرته على الفعل، ولهذا فإن مؤتمراتنا غالباً ما تكون بلا فائدة بعد انتهاء انعقادها، لأن النصوص التي أبدعتها قريحة المجتمعين، لم تولِ الفعل والجدوى اهتمامها، ولم تلحظ حاجة الواقع الأساسية.
شهدت الأشهر الأخيرة عدة محاولات لعقد اجتماعات أو مؤتمرات، منها ما عُقد، ومنها ما يجري التحضير له، ومنها ما يزال قيد البحث، لكن ما يلفت الانتباه في اجتماعين عقدا مؤخراً، الأول في جنيف تحت عنوان "استعادة القرار والسيادة"، والثاني اجتماع دوري عقد في "فيينا" نظّمته مجموعة تطلق على نفسها "مدونة لسلوك عيش سوري مشترك"، وبغض النظر عن تفاصيل كثيرة حكمت كلا الاجتماعين، إلا أن هناك نقطتين جوهريتين يتقاطع بهما كلا الاجتماعين، وتستوجبان الحديث عنهما.
النقطة الأولى، هي مشاركة سوريين يعيشون في الداخل السوري، أما الثانية فهي ضبابية موقفهما من النظام الحاكم في سوريا، وتحديداً فيما يتعلق برأس النظام بشار الأسد، وحجر الأساس في موقفهما من النظام هو فكرة انتصار النظام، وبالتالي التعامل مع هذا المعطى بما يناسبه سياسياً.
بخصوص مشاركة سوريين يأتون من مناطق سيطرة النظام ويعودون إليها، فهو أمر يدعو للتفاؤل، وهو ضروري، فالسوريون جميعاً معنيون بمصير وطنهم، ولهم كامل الحق بالمشاركة في صياغة هذا المصير، لكن لا يستقيم الأمر عندما نقول أن من قدموا من الداخل محكومون بظرف يمنعهم من تجاوز عتبة ما في مواقفهم لدواعٍ أمنية، حتى لو كان تجاوز هذه العتبة ضرورياً للعمل المجدي، لأن بديهيات العمل السياسي تقتضي أن تكون مرجعيته المصلحة العليا، والأهداف العليا التي تضعها هذه التكتلات. ولا يمكن للمصلحة العليا لدولة أو مجتمع، أو حتى لحزب أو جماعة، أن تكون عرضة لابتزاز جهة قمعية.
قبل مناقشة النقطة الثانية، لابدّ لي من القول إنني لست بصدد الأسماء المشاركة في كلا الاجتماعين، ولست بصدد نقاش تاريخهم أو مواقفهم السابقة، رغم أهمية هذا الأمر، لكنّي هنا معني فقط بنقاش فكرة يتم التسويق لها الآن، من قِبل عدة جهات دولية وسورية، سواء من جهة النظام، أو جهة المعارضة، وفحوى هذه النقطة هو انتصار النظام، وبالتالي فإن علم السياسة يوصي بالتعامل مع هذا الانتصار بما يتطلبه سياسياً.
أولا - في الجوهر لا يستقيم القول إن النظام انتصر، فأي انتصار يفترض بالضرورة طرفاً مهزوماً، وبما أن حرب النظام كانت ضد الشعب السوري، فإن انتصار النظام يعني هزيمة الشعب.
ثانياً – اعتبار حملة السلاح على تنوعهم هم ممثلو الشعب السوري، وهزيمتهم تعني هزيمة هذا الشعب، هي فكرة ليست صحيحة وحسب، بل هي فضيحة سياسية ومعرفية، ولا تليق بمواطنين يتصدون لكارثة تعصف بوطنهم.
ثالثاً – في إطلاق هذا التوصيف، تغييب غير بريء لجوهر الصراع في سوريا، والذي يستند أساساً إلى بنية النظام وحتمية انهيار الدولة والمجتمع في سوريا، في حال استمرار هذا النظام.
رابعاً – مصطلح أو مبدأ (لاغالب ولا مغلوب)، يُمكن استعماله في خلاف بين طرفين متمايزين تماماً، سواء في الجغرافيا، أو في الاقتصاد، أو في الدين أو الإيديولوجيا، لكن لا يجوز استعماله في صراع بين شعب وحاكم يستمد شرعيته من هذا الشعب، بين شعب وطغمة مستبدة تحكمه، وتُجرم بحقه، وتنهب ثرواته، وتدمّر ركائز بقائه وتطوره.
ماذا يًمكن لنظام منخور بالفساد، والطائفية والتبعية، نظام مثقل بجرائم لا عدَّ لها، أن يًقدم لوطن مدمّر، ومحتل، ومنهار اقتصادياً وسياسياً؟
باختصار، يمكننا توصيف ما حدث في سوريا هو أن طاغية مدجج بالسلاح، استطاع بوحشيته، وبمساعدة أطراف دولية أكثر وحشية، من إخضاع الشعب الذي ثار ضده، وبالتالي فإن هزيمة هذه الثورة، لا يجوز لها أبداً أن تكون بوابة لإعادة شرعنة هذا الطاغية، ولا يجوز، ولا يحق لمن يعتبرون أنفسهم معنيين بهذا الشعب، أن يغيروا في توصيف جوهر الصراع، وطبيعته.
من جهة أخرى، ماذا يُمكن لنظام منخور بالفساد، والطائفية والتبعية، نظام مثقل بجرائم لا عدَّ لها، أن يُقدم لوطن مدمّر، ومحتل، ومنهار اقتصادياً وسياسياً؟
من يسهمون بسوء نية، أو بحسن نية، بإعادة تعويم هذا النظام، فإنهم يؤسسون إما لتفتيت سوريا، أو لإخضاعها بالعسف والطغيان فترة من الزمن، قبل أن تنفجر مرة أخرى على نحو أشد ضراوة.
عندما لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لا تسهم بتزوير الحقائق، فالحقائق المزورة تصبح عقبة في وجه الآخرين الذين تدعي الدفاع عنهم.