منذ مطلع نيسان الماضي، واظبت السّلطات اللبنانيّة على استكمال عملياتها الأمنيّة (بقيادة مخابرات الجيش اللبناني) مستهدفةً اللاجئين السّوريين المقيمين في مختلف المناطق اللبنانيّة، وهذه العمليات المشتملة على مداهمات عشوائية للمساكن والخيم، واعتقالات تعسفيّة، وجرائم تعذيب وحشيّة، فضلاً عن حملات ترحيل فرديّة وجماعيّة، قد أطلقتها السّلطات بالمرتبة الأولى تحت ذريعة "تنظيم الوجود السّوري وترحيل الداخلين خلسةً لضبط الأمن الداخلي".
وتزامنت هذه العمليات مع حملة تعبويّة واسعة (افتراضية وعلى أرض الواقع) يخوضها سواد اللبنانيين، قوامها الشحن البروباغندي وتسعير الكراهية والنقمة الشعبيّة على اللاجئين، بوصفهم "المحتل" القديم والمنافس الجديد على لقمة العيش. ناهيك بالنزوع الشعبيّ لمقارعة اللاجئ ومعايرته بالدعم الإنساني والمطالبة والمساهمة في اقتلاعه وتهجيره مرةً أخرى. وما تلاها من حملات إعلاميّة وقانونيّة ورسميّة لتمكين هذه المساعي.
حملات أمنيّة وترحيل
في آخر تقرير صدر له عن الحملات الأمنية بتاريخ 19 من أيّار الجاريّ، أشار مركز وصول لحقوق الإنسان إلى رصده لنحو 32 عمليات مداهمة أمنية و/أو حواجز أمنية تم تداولها عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، والمعلومات الأولية التي حصل عليها الباحثون الميدانيون تقول إن أعداد المعتقلين تعسفيًا تراوحت بين 900 و1400 شخص، في حين "لم يتسنّ للفريق التوثيق والتحقق من دقّة أعداد اللاجئين الذين تم اعتقالهم وترحيلهم، وتداول ناشطون أن أعداد الترحيل القسري وصلت إلى نحو 700 حالة ترحيل خلال فترة الحملة الأمنية حتى صباح يوم الثلاثاء 16 مايو 2023".
واليوم وبعد مرور نحو شهرين على أولى هذه العمليات التّي اعتقل في محصلتها ما يناهز 800 لاجئ ولاجئة من شتّى الأعمار والخلفيات ورُحل بالمقابل ما يناهز 400 منهم (ادعت السلطات اللبنانية عدم حيازتهم لأوراق إقامة قانونيّة من دون مراعاتها أي مهل ومتجاهلة الاتفاقيات الدولية والمواثيق المصدّق عليها من جملتها اتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقية اللاجئين) – ذلك بحسب ما أشارت تقارير المنظمات الحقوقيّة المُتابعة – لا يبدو أن السّلطات اللبنانيّة تُبطن أي نيّة لوقف عملياتها هذه والمعطوفة على شبه تزكية شعبيّة بالرغم من الاستنكار الحقوقي والدولي والتحذيرات من انزلاق لبنان نحو نكبة حقوقيّة مستجدّة بعد توفر معلومات عن اعتقال النظام لما يناهز مئتي مُرحل ومصادرتهم فور وصولهم مقلبي الحدود السورية – اللبنانية, من دون أن يُسمع خبرٌ عنهم للآن.
وفي حين تستأنف السّلطات اللبنانية انتهاجها المسار الجهنميّ والملتوي في هذا الملف طامعةً بمزيد من المال الدوليّ ومنصهرةً في طموح بشار الأسد بتحويل الملف لورقة ابتزاز ومادة للتفاوض وسبيلاً لاستجلاب التمويل "للإعمار" مع عودته التدريجيّة إلى "الحضن العربيّ". هذا المسار الذي بات يعكس طرديًا مزاج لبنان الشعبيّ المنغمس بغالبيته إذعانًا بدعاية السّلطة العنصريّة والتحريضيّة، مفرزًا بدوره وإلى جانب الحملات الأمنيّة مشاهد عنفٍ يوميّة تطول اللاجئين تتنوع بين الاعتداءات اللفظيّة والجسديّة، مرورًا بتضييق الخناق عليهم من قبل البلديات والسّكان في عدد من المناطق، واعتماد سياسة التضليل وتحريف الوقائع واستغلالها إعلاميًا، وصولاً لإقامة تظاهرات منددة باللجوء السّوري.
انتهاكات حقوقيّة وتحالف سياسي
وإن كان من العصيّ إحصاء حالات الاعتداءات التّي طاولت اللاجئين في غضون الشهرين الأخيرين، فغالبية المُعتدى عليهم ومن غير الحاملين لأوراق إقامة أو الداخلين خلسةً على وجه التخصيص لم يحيلوا أي شكاوى للأجهزة الأمنية والقضائية المولجة مخافة الاعتقال والتّرحيل. وقد شملت الاعتداءات بحسب ما تُشير التقارير الصحافيّة والحقوقيّة غالبًا عنفًا وتعديًا لفظيًا وتهديدات وصلت في بعض الحالات للاعتداء الجسدي بالضرب وأحيانًا الاعتداء الجنسيّ على الأطفال والنساء.
وقد باتت حالة الذعر العموميّة المنتشرة في صفوف اللاجئين شاخصة للعيان، إذ عمد بعضهم إلى الانتقال من المناطق التّي تتكثف فيها العمليات خاصةً في العاصمة بيروت وقضاء المتن وكسروان، ولزم شطرٌ لا يُستهان به المنازل متوقفين عن العمل وممتنعين عن إرسال أولادهم إلى المدارس احترازيًا.
هذا في الوقت الذي تُدير فيه المفوضية السّامية لشؤون اللاجئين في لبنان ظهرها لهم ولاستفساراتهم ومناشداتهم للحؤول دون ترحيلهم، الأمر الذي اعتبره المطلعون والجمعيات الحقوقية تورطًا صريحًا وإذعانًا فادحًا للسلطة اللبنانية على حساب اللاجئين.
وتنوعت الإجراءات الرسميّة التّي اعتمدتها البلديات المحليّة بين فرض حظر تجوال أو حضّ السّكان على منع السّوريين من العمل أو الإقامة أو تأجير الشقق الشاغرة لهم إلا بموافقة البلدية (قرار صدر في عدد من البلدات جنوبي لبنان)، والتجوال وطردهم من المناطق غالبًا، على غرار ما قام به محافظ العاصمة بيروت القاضي مروان عبود منذ نحو الأسبوع بطرده عددًا من الأسر من مبنى كانوا يأهلونه في منطقة الأوزاعي جنوبي المدينة، متذرعًا بكون المبنى "يُشكل ضررًا وإزعاجًا كبيرًا وخطرًا داهمًا على المحيط والجوار".
وقد وصلت ذروة هذه الإجراءات في المناطق ذات الأكثرية المسيحية من جهة السّكان، كمناطق برج حمود والأشرفية والمتن الشمالي وكسروان وجونيه (التّي تُقام فيها المداهمات دوريًا). على اعتبار أن اللاجئين يُشكلون تهديدًا إسلاميًا – سنيًا على "خصوصية" لبنان الديمغرافية.
وقد عمدت الوسائل الإعلاميّة المحليّة والموالية جهارًا أو خفيةً للسلطة ومسؤوليها، في المساهمة ببث الخدع التحريضيّة هذه قبل أشهر على بداية حملات الترحيل القسريّة، لتوائم خطابها مع خطاب "التيار الوطنيّ الحرّ" المُعادي للجوء والوجود السّوري، الخطاب الذي التحق به غالبية الأحزاب اللبنانيّة المتوالفة والمتناحرة على حدٍّ سواء وتبناه المناصرون وهم من غالبية الشعب اللبنانيّ المقسوم حاليًا على هذا الملف، بين مؤيد لحملات التّرحيل والمساهم بمضاعفة نكبة اللاجئين والمعارض لها وهم القلة القليلة. وبالحديث عن المؤيدين، شهد محيط مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت نهار الجمعة الماضي 19 أيار/ مايو الجاري، تظاهرة احتجاجيّة نظمها مكتب الجامعات في جبيل وكسروان التابع للتيار الوطنيّ الحرّ، طالب فيها المتظاهرون بوقف "النزوح السوري" ومحاولات "التوطين والدمج" مشددين على دعمهم للجيش الذي يقوم بترحيل اللاجئين تحت مُسمى "العودة الطوعيّة والآمنة".
ملف اللاجئين السوريين في لبنان
ويُصرّ المعنيون والمسؤولون باختلاف مواقعهم الرسميّة على ضرورة "العودة الطوعيّة" للاجئين، وقد تكثفت مثل هذه المواقف بُعيد القمة العربيّة واللقاءات التّي عقدها مسؤولون لبنانيون مثل وزير الخارجية عبد الله بو حبيب مع "الجانب السّوري" الذي زعم ترحيبه بخطوة لبنان، موافقًا على بدء الاجتماعات بغية التنسيق والتعاون. فضلاً عن العقبات التّي فرضتها الأجهزة الأمنيّة مؤخرًا في مقدمتها الأمن العام الذي زاد من صعوبات التقدم لأوراق إقامة والتّي كانت أساسًا في السّابق شبه تعجيزية (بسبب التكاليف وصعوبة الاستحصال على الأوراق المطلوبة).
وبهذا تؤكد السّلطتان السياسيّة والأمنيّة أن غاية هذه الحملات بفظاعتها هي محاولة واضحة للتخلص من اللاجئين وطردهم واعتبارهم شماعة الأزمات المتتالية أهمها الأزمة الأمنيّة، الأمر الذي عبّر عنه وزير الداخلية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي في آخر تصريحاته بتاريخ 21 من أيّار الجاري، مشيرا إلى "تراجع معدل الجريمة" مطلع عام 2023 مقارنةً بالعام الذي سبقه, ما عدا حالات "النشل" التّي عزاها لكثافة الوجود السوري في بعض المناطق.
وعلى هذا النحو، يبدو أن ملف اللاجئين في لبنان وإن استمر التعاطي معه من قبل السّلطات اللبنانيّة المتواطئة مع نظام الأسد والمجتمع الدولي شبه الصامت عن ما يحصل بحقّ اللاجئين، على هذا المنوال، فإنّه مؤهل لأن يصبح نقطة مفصلية في السّياسة الداخلية اللبنانيّة، من جهة التوافق المريب بين الأحزاب المتناحرة والتّي كان لها الأثر الأكبر في المقتلة السّورية كحزب الله، وصولاً للأصوات التّي شجبت التعاون العتيد بين الحكومة اللبنانيّة وحكومة النظام السّوري، وانبثق التساؤل مجدّدًا عن هوية لبنان وانتمائه وموقفه, هذه التساؤلات التّي جيشت بدروها انقسامات مستحدثة بين الجماعات والأحزاب اللبنانية.