كتب الرحالة الفرنسي "كميل كالييه 1804-1889" بعد أن زار حلب عام "1831" وكان في مقتبل العمر: "في هذا البلد، غالباً ما يجب العودة إلى الشعر لفهم روح الشرق، فالشعر هو ابن الشرق، والتمتع بسحر الشرق هو الذي يجعلك تفهم الأشياء الرائعة التي تراها هنا".
في هذا الوقت الذي أصبح الشطر الأكبر من مدينة حلب نهباً للدمار والخراب، حلب التي يعرفها القاصي والداني، كأقدم مدينةٍ مأهولةٍ في التاريخ، حيث يمتد عمرها إلى ما يزيد على سبعة آلاف عام، تطل علينا ببهائها عبر أضخم موسوعة شعرية تم طبعها حتى اليوم.
لقد جمع الباحث حسن قجة في موسوعته التي وزعها على أربعة مجلدات ضخمة، والتي ضمت بين دفتيها ما يقارب الـ"2279" قصيدة كتبها "1576" شاعراً، ناهيك عن مئات النصوص النثرية والتحليلية والنقدية التي تناولت حلب عبر عصور متتابعة، ووثقت تطور حركة الشعر عبر هذا التتابع الزمني الطويل.
ضمت الموسوعة إلى هذا العدد الكبير من الشعراء العرب، عدداً وافياً من شعراء غربيين تحدثوا عن هذه المدينة الضاربة جذورها في روح التاريخ، وليس خافياً ذلك الازدهار العمراني والاقتصادي الذي عاشته حلب في حقب متفرقة، فقد خرج منها فحول الشعراء والفلاسفة والموسيقيون، وما يزال مطبخها يحظى بمكانة متقدمة بين مطابخ العالم المتميزة.
كما حفلت الموسوعة بعدد كبيرٍ من نصوص الرحالة العرب (40 نصاً)، ونصوص أخرى لرحالة غربيين وشرقيين (340 نصاً)، وعرضت ما يقارب "900" كتاب تعرضوا لذكر حلب، كما مرت على "60" نصاً عالميا تحدثوا عن هذه المدينة.
هذا الجهد الطويل الذي دام أكثر من اثنتي عشرة سنةً، بحثاً في مطاوي المكتبات وبطون الكتب، وسير الرحالة ودواوين الشعر، أثمر عن موسوعة هي الأولى من نوعها في تاريخ المدن السورية، والتي يمكن اعتبارها عملاً توثيقياً شاملا، يحوي تاريخ حلب عبر العصور، كما تناولته أقلام الشعراء والأدباء والساسة والرحالة، منذ مئات السنين حتى يومنا هذا.
تشكل الموسوعة بمجلداتها الأربع، مرجعاً للباحثين الذين يرصدون حركة تطور هذه المدينة العريقة، عبر آلاف القصائد المغرقة في التفاصيل
اهتمت "دار بريل" المؤسسة الهولندية العريقة بهذه الموسوعة وأشرفت على طباعتها، وهي مؤسسة يرجع تاريخ تأسيسها لعام "1683" في مدينة ليدن، حيث يتركز اهتمامها على تاريخ الشرق الأوسط، والدراسات الإسلامية والآسيوية وعلوم اللاهوت، وهي التي تسهم سنوياً في نشر مئة مجلة علمية أكاديمية، ومئات العناوين التي تتوزعها مكتبات عالمية، في طوكيو وبوسطن وليدن الهولندية.
تشكل الموسوعة بمجلداتها الأربع، مرجعاً للباحثين الذين يرصدون حركة تطور هذه المدينة العريقة، عبر آلاف القصائد المغرقة في التفاصيل، كتطور تعابير الحب والشوق وطرق التعبير عن جماليات المكان والزمان، وتنوع أشكال الهجاء والمديح، وتطور اللغة السائدة والمعبرة عن كل زمن من الأزمنة المتعاقبة، كما يظهر تنوع الشعراء الذين تحدثوا عن حلب بشعرهم بوصفهم مقيمين، مقدار التنوع الغني الذي حظي به تاريخ المدينة والذي شكل بتراكمه وانسجامه البنية الحضارية لهذه المدينة التي كانت تنتصب كمنارة علمٍ ومعرفةٍ على طريق الحرير.
جاءت مجلدات الموسوعة الأربعة على النحو الآتي:
- المجلد الأول: حلب في الشعر القديم (بين القرن السابع ومطلع القرن العشرين) ضم قصائد لخمسمئة شاعر وحوى تسعمئة وسبعاً وثلاثين قصيدة، في اثني عشر فصلاً، فكان مجمله ثمانمئة وأربعاً وأربعين صفحة.
- المجلد الثاني: حلب في الشعر الحديث والمعاصر (بين مطلع القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، ضم قصائد لثلاثمئة وتسعة وستين شاعراً، وحوى خمسمئة وثلاثين قصيدة في عشرة فصول، فكان مجمله ثمانمئة وثمانياً وثمانين صفحة.
- المجلد الثالث: حلب في شعر الرثاء المعاصر (بين عامي ألفين وأحد عشر وألفين وعشرين) ضم قصائد لسبعمئة وسبعة شعراء، وحوى ثمانمئة واثنتي عشرة قصيدة في سبعة فصول، فكان بمجمله تسعمئة وست وخمسون صفحة.
- المجلد الرابع: مجلد الفهارس العامة (الأماكن والأعلام والموضوعات والقوافي.
الأسى الذي يستوقفنا في هذه الموسوعة أن مجلدها الثالث، وهو المجلد الأكبر من حيث عدد الشعراء وعدد الصفحات، يقتصر على شعر الرثاء لهذه المدينة المنكوبة والمشرد أهلها، فهي تتحدث بتمامها عن أصعب الأزمنة، التي مرت عبرها هذه المدينة، زمن الحرب والدمار والتشريد والهجرة القسرية، وتهدم العمران، وإن معظم من كتبوا هذه القصائد، هم شعراء منفيون أو مهاجرون أو فارون من ويلات حرب لم تبق ولم تذر، من رماد الفناء تتجدد الحياة وتنهض حلب مرة أخرى كما تهفو لها قلوبنا، ومهما دمرتها الجيوش سيحييها الشعر.
موسوعة حلب في عيون الشعراء، من إصدار دار بريل هولندا 2022.
جمعها ونسق نصوصها د. حسن قجة وهو كاتب وباحث مهتم بالتراث الحلبي يقيم في هولندا.