تداولت منصات التواصل الاجتماعي قضية كثرة إنجاب السوريين للأطفال في تركيا، وأخذت منشورات كثيرة هذه المسألة حجة لتحميل اللاجئين السوريين مسؤولية الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تشهدها البلاد، وظهور ادعاءات بحدوث تغيرات كبيرة في تعداد السكان تهدد هوية تركيا الديمغرافية ما عرض المرأة السورية لمطالبات متكررة من قبل المجتمع التركي للكف عن إنجاب الأطفال.
وعلى نطاق أضيق، ترزح كثير من النساء السوريات تحت وطأة الضغوطات من الزوج والعائلة والإلحاح من القريبين المتمسكين بالأعراف الاجتماعية، لإنجاب مزيد من الأولاد، فيتناسى المجتمعان حقها في اتخاذ القرار.
وبذلك تكون المرأة في واقع متناقض المطالب، عالقة بين مجتمع مضيف يطالبها بالتوقف عن الإنجاب ومجتمع أصل يرغب بمزيد من الأولاد.
ويزيد الضغط على المرأة وتعقيد الحالة، حسابات واعتبارات المعيشة وتكاليفها وقدرة الصحة الجسدية والنفسية على تحمل مزيد من الولادات والمسؤوليات التي ستحد من طموحاتها في العمل أو الدراسة أو غيرهما.
عجز التضامن الدولي أمام أزمة النزوح السورية، فأصبحت الأزمة العالمية الأكبر من نوعها بعد الحرب العالمية الثانية، و"أكبر أزمة إنسانية وأزمة لجوء في عصرنا" كما وصفها المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي عام 2016، واستمرت الأزمة في التفاقم وفقاً لبيانات الأمم المتحدة على مدار السنوات الماضية، لتحل سوريا في المرتبة الأولى عالمياً بعدد النازحين وسجلت 6.6 ملايين لاجئ موزعين حول العالم، استضافت تركيا ما تجاوز 3.7 ملايين منهم، وتجاوز عدد النساء والأطفال ما يزيد على 70 في المئة من مجلمهم بحسب دائرة الهجرة التركية.
ضغوطات المجتمع المضيف
لم تتوقع مريم اللاجئة السورية في مدينة إسطنبول أن تطلب منها إحدى الممرضات عدم إنجاب مزيد من الأطفال حين ذهبت لتطعيم ابنها في أحد المراكز الصحية التركية ، خاصة بعد أن تكرر هذا الطلب الغريب على حد قولها من أكثر من شخص تركي تجتمع معه مصادفة ولا تربطها به أي معرفة مسبقة.
تقول مريم: "في كل مرة أشعر بالاستياء الشديد، فهم يتحدثون وكأن حقي في الإنجاب انتزع مني بمجرد خروجي من بلادي وكأن وجودي في بلدهم يعطيهم الحق باتخاذ قرار الإنجاب أو عدمه عوضاً عني".
تحتضن مدينة إسطنبول العدد الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا، وتجاوز عدد السوريين المقيمين فيها تحت الحماية المؤقتة النصف مليون لاجئ وفق آخر إحصائية لدائرة الهجرة التركية في 23/12/2021.
وتعزو حلا السورية المقيمة في ولاية كوجالي (الواقعة شمال غربي تركيا التي تعدى فيها عدد اللاجئين السوريين 56 ألف لاجئ) تعرضها لمواقف مشابهة مراراً، إلى الحكم المسبق على اللاجئين السوريين بأنهم شعب يهمه إنجاب الأطفال فقط، وهذا ما تسمعه بشكل متكرر عند اجتماعها مع بعض أصدقائها الأتراك وتواجهه من خلال منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل ناشطين أتراك، على حد قولها.
ووصلت هذه المنشورات إلى حد اتهام السوريين بالقدوم إلى تركيا لإنجاب الأطفال وليس هرباً من الحرب كما جاء في تصريح لسيدة تركية "لميكروفون متنقل" (يوتيوبر الشارع) كان يرصد رأي الأتراك في الشارع عن مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا من خلال مقطع مصور انتشر على يوتيوب عام 2019.
İyi Parti Merkez Disiplin Kurulu Üyesi Ali Işıner Hamşioğlu ( @isinerh ) :
— Aslı Kurtuluş Mutlu (@aslikurtuluss) January 24, 2019
Lütfü Savaş az söylemiş, sadece Hatay değil, Kilis’ten bir Suriyeli çıksa “adayım” dese belediyeyi alır.
Günde 400 çocuk doğuyor. 2023’ü geçtiğimizde Suriyeliler parti kursa %10 alırlar.@krtkulturtv pic.twitter.com/Sks7a2QigH
Yaa ben 1 çocuk kızım 1 çocuk kardeşim 2 čocuk yeğenim 2 suriyeli bir adamın 5 karısı var ışığı gören doğuyor .biz çocuk yapmayı bilmiyoruz. Onları da kısırlaştırın o zaman.15 çocuk mu olur. Hatayda vali isyanda .mazlum haycanlar dile gelse günah der günah yaşam hakkı der. İnsaf
— Ilhan Ipcioglu Bakırköylü Cumhuriyet kadını (@IlhanIpcioglu) December 24, 2021
Konyada günde ortalama 40 suriyeli çocuk doğuyor madem zor koşuldalar nerden buluyorlar o kadar çocuk yapacak vakti. #SuriyelilerEvineDönsün
— özkan buyrucu (@Ozkanbuyrucu) July 3, 2017
بالأرقام.. انخفاض كبير بمعدلات الولادات
على نقيض تلك الادعاءات، وفي نفس العام شاركت جيلان أوزدم الدكتورة التركية في علم النفس على يوتيوب دراسة مصغرة تناقش فيها معدلات إنجاب السوريين، وأشارت إلى أن سبب نشرها لهذه الدراسة هو كثرة المقاطع المصورة التي تتحدث عن كثرة إنجاب السوريين للأطفال في تركيا.
وأوضحت أوزدم انخفاض إنجاب الأطفال السوريين من خلال مقارنة سرعة إنجاب الأطفال السوريين بين عامي 2010 –قبل الحرب في سوريا- و2017 -مستندة إلى أعداد ولادات الأطفال في تركيا في هذا العام- ووجدت أن سرعة الإنجاب انخفضت من 25.2 بالألف عام 2010 إلى 17.8 بالألف عام 2017.
ودحضت أوزدم بذلك على حد قولها ادعاءات بعض المواقع التركية والأبحاث الأكاديمة بأن السوريين و بسبب بيسكولوجية الحرب يميلون لإنجاب الأطفال تحقيقاً لاستمرار وجودهم.
وتعرّف منظمة الصحة العالمية الحقوق الإنجابية على أنها الحق الأساسي لجميع الأزواج والأفراد في أن يقرروا بحرية ومسؤولية عدد وتباعد وتوقيت أطفالهم وأن تكون لديهم المعلومات والوسائل اللازمة لذلك، والحق في بلوغ أعلى مستوى ممكن من الحياة الجنسية والصحة الإنجابية. وهي تشمل أيضا حق الجميع في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإنجاب دون تمييز أو إكراه أو عنف.
أزمة متوالية الإناث.. زوج يحكتر القرار وآخر يتشاركه
في مدينة قونيا وسط جنوب الأناضول الحاضنة لما يقارب 123 ألف لاجئ سوري، لم تتعرض خلود اللاجئة السورية لتدخل الجيران الأتراك ومطالباتهم المتكررة بعدم إنجاب مزيد من الأطفال فحسب، بل واجهت وما زالت تواجه ضغوطات أسرية واجتماعية تؤثر على قرارها في الإنجاب.
أثرت الأعراف الاجتماعية على خلود في بداية حياتها الزوجية وتحكمت بقراراتها في التباعد بين أطفالها. تقول خلود لموقع تلفزيون سوريا: "بعد إنجاب ابنتي الكبرى قررت أن أنجب الطفل الثاني مباشرةً وعندما كان جنس مولودي الثاني أيضاً أنثى، كان علي أن أستمر في الإنجاب دون توقف، ففي مجتمعنا لا بد من إنجاب الذكور".
ما زالت قناعة قسم كبير من السوريين راسخة بشأن الحصول على مولود ذكر، وفق معتقدات مجتمعية كان لها مبرراتها وأسبابها قديماً، بأن الولد الذكر سيكون سنداً للعائلة والأب ومدافعاً عنها، والأهم من ذلك أن "يحمل اسم أبيه"، ولذلك تتوالى الإنجابات تباعاً حتى ترزق العائلة بمولودٍ ذكر، وربما لا تتوقف العملية كي لا يعيش الولد الذكر وحيداً، فتستمر المطالب بالإنجاب للحصول على ذكر ثان.
لم يشفع لخلود إنجابها لطفلها الثالت ذكراً عند زوجها كما تقول، فما زال زوجها يفرض عليها إنجاب مزيد من الأطفال وبلغ عدد أطفالها 7 أطفال أكبرهم في سن الثالثة عشرة حتى الآن.
تضمن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في (المادة 16) وضع المرأة على قدم المساواة مع الرجل وإعطاءها نفس الحقوق في أن تقرر "بحرية وعلى نحو مسؤول عدد أطفالها والفاصل بين الطفل والذي يليه، وفي الحصول على المعلومات والتثقيف والوسائل الكفيلة بتمكينها من ممارسة هذه الحقوق وتضع هذه الاتفاقية المؤلفة من 30 مادة، في قالب قانوني مُلزم، المبادئ والتدابير المقبولة دولياً لتحقيق المساواة في الحقوق للمرأة في كل مكان.
وعلى عكس زوج خلود ترك عبد الإله زوج مريم قرار الإنجاب لها بعد أن تحقق لديه "الاكتفاء العاطفي كأب" بإنجاب زوجته لأول طفلين على حد تعبيره، ويقول إنه يحترم رغبتها بإنجاب المزيد في حال أرادت ذلك، وإن هذا الموضوع مفتوح للنقاش في أي وقت ولا ينفرد به أي منهما.
بينما يبرر محمد زوج خلود رغبته بالإنجاب المتكرر بأن كثرة الأولاد هي ‘‘عزوة و سند للأهل’’ وأنه بصفته لاجئاً في بلد غريب يحتاج لهذه ’’العزوة‘‘ خصوصاً بعد أن تفرق أهله وأقاربه في عدة بلاد.
وبين أم ترغب بالتوقف عن الإنجاب وأب يريد المزيد من الأطفال، تقول الطبيبة ومنسقة الصحة الإنجابية في منظمة سيما صبا جدعان لموقع تلفزيون سوريا لدى سؤالها عن الشخص الأحق في اتخاذ قرار الإنجاب، إن حق الإنجاب هو ملك لكل من الأم والأب على حد سواء، لا يجب تفرد أحدهما به، فالأم تحمل وتتعب وتلد والأب في المجتمع السوري يتكفل بالأمور المالية إلى جانب دوره في التربية، لذلك فإن التشارك في القرار هو الحل العادل للطرفين.
أسباب تدفع المرأة للرغبة في التوقف عن الإنجاب
حددت مريم عدم رغبتها في الإنجاب بالتفرغ "لتحقيق ذاتها" وإكمال دراستها، فما تزال المرأة في المجتمع السوري هي المسؤول الأول عن تربية الأطفال مهما كان زوجها متفهماً داعماً على حد قولها.
وأضافت في حديثها لموقع تلفزيون سوريا: "بعد تسعة أعوام في تركيا ما زال أطفالي يحملون بطاقة الحماية المؤقتة -كوثيقة تعطيهم شرعية البقاء في البلاد- التي يكفي اسمها لتوليد شعور بعدم الاستقرار، والتفكير ملياً قبل إنجاب طفل آخر".
لم تكن مشكلة عدم الاستقرار لدى حلا الحاصلة على الجنسية التركية الاستثنائية هي السبب لعدم رغبتها بإنجاب المزيد من الأطفال، فالسبب الرئيسي هو سوء الأوضاع المادية، وتقول إن اضطرارها وزوجها إلى العودة من نقطة الصفر من ناحية التأسيس المادي بعد قدومهم إلى تركيا هو العائق الأكبر الذي يحول دون إنجابهم طفلاً آخر.
وأشارت جدعان إلى وجوب دراسة الحالة المادية والنفسية والاجتماعية للأسرة قبل الإجماع على إنجاب طفل، وأرجعت أوزدم تراجع سرعة إنجاب السوريين إلى خروج السوريين من بيوتهم ووطنهم عنوةً وتعرضهم لصدمات عنيفة جعلتهم يشعرون بأنهم غرباء. وتقول "مهما اعتقدنا أنهم يعيشون في ظروف جيدة إلا أنهم خرجوا من منازلهم وبيوتهم دون إرادتهم ما يعني أن حالة الصدمة لديهم مستمرة وليسوا في حالة رخاء".
التعب الجسدي والإرهاق نتيجة الولادات المتكررة كانا السببين الرئيسيين لرغبة خلود في التوقف عن الإنجاب وقالت إن عدم إعطائها الفرصة لأخذ نقاهة من متاعب الحمل والولادة والإرضاع منعها من الاستمتاع والتفرغ لتربية أبنائها السابقين.
وأكدت الطبيبة صبا جدعان على وجوب احترام رغبة الأم في مسألة التباعد بين الأطفال نظراً لما يرافق عملية الإنجاب من تغيرات جسدية وبيولوجية، بدءاً بالحمل الذي يرافقه تغيرات هرمونية ووزن زائد يؤدي إلى الإجهاد وضيق النفس إضافة لعدم القدرة على النوم والراحة، انتهاءً بآلام المخاض و الولادة و مايتبعها من اكتئاب ما بعد الولادة و أعراض أخرى.
ونبهت على عواقب إجبار الأم على الحمل وصنفته كنوع من العنف الجسدي والنفسي الذي يولد عواقب سلبية على العائلة، تصل حد عدم حب الأم للطفل بعد ولادته في بعض الأحيان، وقد تدخل الأم في اكتئاب لعدم حبها للجنين ما يدفعها في بعض الحالات إلى إجهاضٍ غير آمنٍ أو الانتحار، كما أشارت إلى احتمال حدوث خلل في العلاقة بين الزوج والزوجة.
وأضافت: "علينا احترام حق المرأة في المشاركة في القرار فعدم رغبتها بالإنجاب قد يكون لأسباب صحية وتعب جسدي، وعدم اقتناع الزوج بذلك لمجرد رؤيته أمه وجدته قد أنجبت 10 -15 طفلاً ولم تصب بمكروه هو أمر غير مبرر".
وختمت جدعان نصائحها وتوضيحاتها بالقول: "إن الزيادة في إنجاب الأولاد دون استعداد الأم لذلك وعدم قدرتها على التربية والحب هو خطأ يقترفه الأهل بحق الأولاد، مشددة على ضرورة مساعدة الزوج والأهل في جميع مراحل الحمل والإنجاب مما يضمن سلامة صحتها النفسية، ويؤثر بالتالي على صحة الجنين، تقول" كلما كانت الصحة النفسية للأم جيدة كان الجنين بصحة نفسية سليمة وهذا له تأثير إيجابي على حياته فيما بعد".
تعرف منظمة الصحة العالمية الحمل الإيجابي بأنه الحفاظ على الحالة الطبيعية البدنية والاجتماعية والثقافية، والحفاظ على الحمل الصحي للأم والطفل (بما في ذلك الوقاية من المخاطر والمرض والوفاة، أو معالجتها)، والانتقال الفعال إلى المخاض والولادة الإيجابيين، وتحقيق الأمومة الإيجابية (بما في ذلك اعتزاز الأم بنفسها وكفاءتها واستقلالها الذاتي).
تبقى للمرأة بشكل عام وللمرأة اللاجئة على وجه الخصوص اعتبارات وأسباب تؤثر على قرارها في الإنجاب، كثيراً ما يجهلها أو يتجاهلها المجتمع المحيط، ما يتطلب رفع الوعي تجاه رغباتها واحتياجاتها، ودعم المرأة لضمان الوصول إلى حقها في قرار الإنجاب.
تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من "صحفيون من أجل حقوق الإنسان (JHR)".