خمسة عشر عاما من 1986 إلى 2001 قضاها ابن مدينة منبج وطالب السنة الرابعة في جامعة حلب الشاعر حسن النيفي في سجون الأسد، ثم أطلق سراحه وعمره 38 عاما، ومجردا من حقوقه المدنية ومحروما من السفر ولكنه أكمل دراسته وتخرج بشهادة جامعية في اللغة العربية وآدابها.
أصدر الشاعر ديوانه الأول (هواجس وأشواق) وهو في الجامعة عام 1985. وفي عام 2004 أصدر ديوانه الثاني (رماد السنين) مسترجعا فيه ما حفظته ذاكرته من قصائد نظمها في سجن تدمر العسكري، حيث كانت مواد الكتابة مستحيلة وإخراج أي مادة مكتوبة إلى الخارج أكثر استحالة. في عام 2010 أصدر ديوانه الثالث (مرافىء الروح). يقول الشاعر: "بعد السجن تركز نشاطي حول الدراسات النقدية والأدبية وكتابة الشعر ومتابعة قضايا المعتقلين السوريين، ولما انطلقت ثورة الحرية والكرامة 2011 انخرطتُ في الحراك المدني". ثم عمل في المجالس المحلية ومسؤولاً في المكتب السياسي في مجلس محافظة حلب الحرة في عامي 2014 – 2015. غادر الشاعر إلى تركيا إثر احتلال داعش لمدينته منبج واستقرّ في مدينة غازي عنتاب تسع سنوات متابعا عمله في الصحافة والإعلام وشؤون السياسة، و(ظل الشعر هاجسه وملاذه).
جمع الشاعر حسن النيفي بحصافة واقتدار، بين السياسة الهادفة إلى الخير العام وبين الشعر بوصفه الوجه الجمالي الميتافيزيقي للثورة وللتعبير عن المشاعر والأحاسيس والانتماء لقيم الحرية والإبداع، وعمل بدأب وإصرار على تحرير فضاء التعبير في المجالين من كل تلوث أصابهما في ظل أيديولوجيا البعث وطغيان الأسدين. وبهذه الصفة الجامعة بين مسؤولية المثقف المبدع والفاعلية السياسية، دخل حسن النيفي لاجئا سياسيا إلى فرنسا في نهاية العام 2022 متابعا مساره كواحد من المناضلين الأشداء المتابعين لتطورات كل ظاهرة جديدة في الحراك السياسي، وبهذه المتابعة احتل موقعه بين الوجوه السياسية والأدبية البارزة.
حسن بين المتنازعين المتكاملين (السياسة والأدب)
تتميز التجربة الشعرية للنيفي بالأصالة والفرادة وصفاء العبارة والصورة المبتكرة المشحونة بالعواطف والانفعالات والمعاني العميقة. وهو في هذا ينطلق من علاقة وطيدة بالتراث الشعري العربي وتوقه المتجدد للغَرف من معينه وبث لواعجه وهمومه وتطلعاته عبره ولكن بطابعه ومزاجه الخاصين. لذا يصح في تجربته قول العرب (يصبّ خمرته في دنان عتيقة) وما دنانه سوى بحور الشعر والقصيدة العمودية، التي يحشدها بمزيد من ضغوطه النفسية وهواجسه الداخلية ويعتمد موسيقا الشعر والإيقاع العروضي المتمكن من وظيفة الأذن والموروث الشفهي المنبري للشعر العربي، ويعبر من خلاله عن إيمانه بصلاحية الوسيلة التي خبرتها الأجيال قرونا طويلة، متجاوزا حداثة الخمسينات (شعر التفعيلة وقصيدة النثر) والتجربة الهائلة التي أسست له من دون أن تلغي عمق القصيدة العمودية في وجدان الشاعر النيفي، الذي لم يزل يعوّل على إمكانية شحن القصيدة الكلاسيكية بمخزون أفكاره وتوهج عواطفه وقدرتها على معافاته من تراكم حرمان عميق ومعاناة قاسية سواء في سجون النظام أو في مواجهته وتحمّل ما آلت إليه سوريا على يد تلك السلطة المجرمة.
وللنيفي منحاه في تحقيق البهاء والصفاء التعبيري والسمو الأخلاقي معنى ومبنى، فهو يدعوك لتتلمس نبض الأصالة، يسري ويتدفق في عروق شاعر، توافق مع شاعرية ابن مدينته منبج، الشاعر الفذ (عمر أبو ريشة). ولأنّ الشعر ميتافيزيقيا المشاعر والأحاسيس، فهو يضفي بلهيبه العلوي التخيّلي على حلم السياسي ليتوهج بصدق المعاناة والتعبير عن مساحة الاشتباك الرحبة والمتعالقة بين الخاص والعام وحيث تبدو القضية الوطنية هاجسا شخصياً مقلقا له، من دون أن تلغي ضرورات السياسة وواقعيتها، أو أن تحدّ من انعكاس وهج القصيدة الداخلي المحفز لشاعر ثائر نقدي، تغييري، يتوسم الريادة في المجالين وفي امتثاله للأنا الأعلى. فالشعر ليس صدى للهم السياسي عنده، بل هو هيولاه ونبضه، والمتناغم معه في منخفضاته واندفاعاته نحو التجدد والابداع عبر الاستفاضة الوجدانية المتوافقة مع ما يوفره البحر الكامل من مساحة وافية للتعبير المفعم بالمشاعر كما في:
قلت الـسلام على دم مهـراق من طافـح النجـوى إلى مشــتاق
لنزيف أهلي، لابتهال قلوبهم فـجــرا تـنـاجـي رحـمـة الـخـلّاق
الواقفين على شفا أرواحهم يستشرفـون الـمـوت طيـف عـنـاق
ولنا أن نلاحظ عمق الحفر الوجداني الهائل التأثير عبر تراكيب وصفية وإضافية متتالية (دم مهراق. نزيف أهلي. ابتهال قلوبهم. يستشرفون الموت) لنصل إلى سرّ الشاعرية المفجرة لطاقة الإبداع الحر المطابق في صوره وتعبيره وإيقاعه لحاجاته النفسية والتعبيرية، سواء في انزياحات اللغة أو في التحليق الاستعاري والأسطوري المتوهج بدفق الحزن والحب والأمل وبعزيمة الثوار وإرادتهم الحرة. فالشعر عنده مشروع وجداني وأدبي استراتيجي مكمل ومواز لمشروعه السياسي والفكري، وعبر المعاناة في بعديها الواقعي والنفسي وما يتجلّى في خطابه لـ (شآم العز) قلب سوريا والدالة عليها وحين يكون الفراق أشبه بحجر الرحى معنى وإيقاعا بتوالي الهاء والصاد (الهصر) معبرة عن أقصى الشدة وحيث يتناهى إلى جفاف مجرى الدمع لطول الترقب والتصبر والانتظار، أو حين يخرج من الشدة الموجعة بدعوة إلى التعالي والسمو على المأساة (لا يوجعنّك) قبل مفردات الموت (نعش الآمال) و(رحيل الأحبة والرفاق) ليحقق معادلة الثقة بمستقبل يستند على إرث صلب من المواجهة وتحقيق الفخار (فلك انبعاث الفجر وحي بشارة ضاءت بوارقها بكل نطاق) إنها الدعوة نفسها التي تنعكس على مشاعره للاحتفاظ بكبريائه ويسمو على المأساة العابرة.
في الخطاب الشعري
لم يهن حسن النيفي ولم يحن هامته للجلاد، بل فجر في التغريبتين المتكاملتين ما اختزنه روحه من لهيب الحرية الأزرق ومن الذهاب إلى الابتهال المفعم بالأسى والاشتياق بتفعيلة البحر البسيط المطواعة والشديدة الاستجابة للوجدانيات.
كلُّ الدروب إليكِ اليومَ تحـــــــــــــــملني وبين كفّيكِ قلبـــــــــــــــــي سوف يمتثل
فهاكِ ما شئتِ، أوجــــــــاعي وشحَّ دمي خـذي صهيـلَ جــــــــــــــراحٍ ليس تـندملُ
إنها المفاداة والمقايضة بالرميم لتبقى ومضات الحلم مشعة:
دَعْها على ومضات الحـــــــــــــــلم تبتهلُ ومنْ رميميَ خـذْ ما شـئتَ يـا أجل
دعـها ذبـالةَ روحٍ جفّ محــــــــــــــــرقُها وكلّـمـا انطفـأت عينــــــــــــــــايَ، تـشتعلُ
الأصالة والفرادة
تحدد الأصالة التراثية ملامح هوية الشاعر الفنية والعاطفية والقيمية عبر الانتقال بالحدث السياسي إلى معانيه الإنسانية والثقافية والحقوقية ومده بكل ما ينقص برغماتية الأنظمة والنخب من زيت السلاسة والبراءة ورقة الطبع وغير ذلك.
وإذا كانت الفطنة والدربة والإحساس المرهف والمعاناة والثقافة الفنية والمهنية، هي عدة الشاعر، فإن شاعرنا حسن النيفي، يمتلك منها مخزونا واسعا، ويتجلى برنة حزن واسى في نغماته وسكناته وصوره الموشحة بغلالة حزن مضاعف، يعبّر عن ضمير حيّ، يلهج بآلام الأهل وأحلامهم ويدفع باتجاه خلاصهم في كل ما يستطيعه التكامل بين الشعر والسياسة في مناخ الاكتواء بنار الغربة والحرمان وفقد الهوية وتحمل صدمات السياسة الدولية التي انصبت في الشأن السوري بمزيد من المعاناة والخيبة والتراخي وجعلت من الشام دالة لوطن مستباح و لاعجة شوق ومحبة وغصة الإرغام على الفراق. إنها انكسار الحلم الوطني والشخصي وقد تداخلا وتماهيا في الوجدان العام:
يــــــــــــــــا شامُ كلُّ بلادِ الله مظلمةٌ مذْ مِنْ عيونك نورَ الشمس قد سمَلوا
مذْ لاح صوتُك مذبـوحــاً على بـردى وياسميــــــــــنكِ مسمـومُ الشذى ثَكـِلُ
نهيمُ كالطير وحـداناً ويجـــــــــــمعنا من قـاصيــــــات مـدانـا دمعُـكِ الـهَـطِلُ
توهّموا أنّ عينَ الله غــــــــــــــافلةٌ وأن صـبـرَ جــراحــــــــي ما لـهُ أجَــلُ
كلُّ الجراحِ بوجه الموتِ واجــــِمـةٌ إلّا الـكرامـةُ، ثـرٌّ جـرحُــــــــها، جَـذِلُ
كذا استقرّ الشاعر مصدوما بالهم الوطني والشخصي، فتوشى شعره بغلالة رومانسية هاجسة وثائرة وقد هب لها بجماع نفسه وروحه وجسده وراح يدعوها من خلال الحزن والثورة إلى السمو محققا التوافق البنيوي بين عناصر الشعر كالصور المفعمة بالعواطف والإيقاع واختيار المفردات لتوافق حلم الحرية ومسؤولية سحب حجرة من مدماك الاستبداد وتقويض وسائل طغيانه.
هكذا غرد طائر الفجر ممتثلا بين يدي حبيبته المأسورة دمشق، قلب سوريا النابض وهكذا يزفها إلى شرفات الحرية والإبداع، وحيث الخطاب الشعري خطاب استلاب ساحق وابتهال وفداء وتضحية بكل غال في سبيلها.