icon
التغطية الحية

"حزب الله" المختار

2024.05.04 | 17:15 دمشق

565656
+A
حجم الخط
-A

في بداية عام 2010 جدّدت جامعة الطائف طلاء جدران القاعات الدراسية في مقرها الرئيس ببلدة الحَوِيّة، وكان هذا الطلاء بلون البيج الكامد، على خلاف اللون الأبيض الفاتح الذي كان قبله. ويبدو أن إدارة الجامعة أرادت بهذا أن تطمس بعض الكتابات غير المسؤولة على جدران القاعات الدراسية التي يسجلها بين الحين والآخر بعض الطلاب العابثين.

ما إن جفَّ الطلاء وبدأ الفصل الدراسي الثاني حتى عاد العابثون إلى سابق عهدهم. ولكن ما لفت انتباهي خاصةً بيتٌ من الشعر النبطي سجَّله أحد الطلاب على جانب السبورة في إحدى القاعات الدراسية في قسم اللغة الإنجليزية. يقول البيت:

حِنّا عْتيبة والجزيرة وِطَنّا    رَبّي خَلَقْنا لِلْقَبايِل عُقوبة

ما فهمته شخصيًّا من هذا الرد السريع، بغض النظر مؤقتًا عن محتواه، هو الرسالة التي أراد الطالب، فيما يبدو، أن يوجهها إلى الجامعة وهي: مهما حاولتم أن تُقَولِبونا أو تثقفونا أو تطلوا جلودنا بطلاءاتكم المتعددة الألوان، فلن تستطيعوا أن تُخرِجونا من هذه الجلود أو تطمسوا ما وجدنا عليه آباءنا، وإنّا على آثارهم لَمُقْتَفون!

وعندما تحريتُ عن الأمر اكتشفتُ ما هو أخطر من ذلك: وهو أن هذا البيت ليس من تأليف الطالب، ولذلك فهو ليس بضاعةَ فَرْدٍ بعينه، بل هو بيتُ شِعْرٍ يتداوله أبناء قبيلة عُتَيْبة في منتدياتهم العديدة على شبكة الإنترنت (وأحيانًا يدّعيه أبناء قبيلة مُطَيْر)، وصار عندهم بمثابة النشيد الوطني أو عهد الولاء الذي تتخذه الكيانات السياسية الكبرى كالدول. عجبت لطالبٍ جامعي يدرس اللغة الإنجليزية، ناهيك من كونه مواطنًا في دولةٍ قامت على توحيد القبائل في معظم شبه الجزيرة العربية، لم يخرج بعدُ من قوقعة القبيلة التي لا تعترف بأي كيان سياسي أو اجتماعي أو ثقافي خارج حدودها الضيقة. كما عجبتُ من الروح الشوفينية المتبجحة لقائل البيت التي تفتري على الله وتدَّعي أنه اجتبى قبيلة واحدة لتكون سيفَه المسلول على بقية خلقه! الأفظع من هذا هو أن منطوق البيت يجعل، نظريًّا، كل من لا يعمل من أبناء هذه القبيلة الكريمة، وهي أكبر قبائل شبه الجزيرة العربية، بموجب هذه الروح الشوفينية العُدوانية مارقًا على سُنَّة الله في خلقه.

من المفارقات المضحكة أنه بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، ومساندة بعض دول الخليج للحراك الشعبي في سوريا باتت العروبة تُشْتَم جهارًا نهارًا في الإعلام البعثي العروبي

لكن أن تجدَ طالبًا جامعيًّا في القرن الحادي والعشرين لا يرى حرجًا في كتابة مثل هذا البيت الشوفيني على جانب السبورة بحبر يصعب محوه لَهُوُ مؤشرٌ على إخفاق ذريعٍ على أكثر من صعيد: فلا انتسابه إلى الجامعة (وخصوصًا دراسته للغة الإنجليزية وما تحمله من حمولة ثقافية مُفارِقة للمألوف القبلي لديه وملخصه "لنا الصدْرُ دون العالمين أو القبر") ولا انتماؤه إلى الدولة أو إلى الإسلام (حيث لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) استطاعت أن تزعزع قناعاته الجاهلية التي تُقصي الآخر، أو تُلغيه تمامًا من الوجود، أو تُسَخِّره لإرضاء غرورها الاستعلائي الأجوف. المفارقة السيميائية الكبرى فيما فعل الطالب تكمن في اختياره للمنطقة المتاخمة للسبورة لتسطير بيان قبيلته: ففي حين تُمحى المعارف المتحولة التي يكتبها الأساتذة لطلابهم على السبورة من قبل الأستاذ التالي، يظل بيان عُتيبة ثابتًا في لوح القَبيلة المحفوظ، وماثلاً على الدوام أمام أنظار الطلاب، لا تنافسه ولا تزحزحه أي معارف تالية، على الأقل إلى أن تنتبه إدارة الجامعة فتقرر طلاء الجدران مرة أخرى لعلها تطمس، ولو إلى حين، مثل هذه الثوابت القبلية.

المفارقة السيميائية الأخرى هي أن الطالب اختار أن يسجل وجوده على جدارية الجامعة بوصفه ابن قبيلة لا بوصفه طالبَ جامعة. لا شك أن الطالب في لاوَعْيِه الجَمْعي يشعر – حتى وهو في الجامعة – بالانتماء إلى القبيلة لا إلى الجامعة، وله في ذلك مسوِّغات فطرية، منطقية في ظاهرها: القبيلة ثابتة، والجامعة زائلة. والأنكى من ذلك أن مَن يروِّج لهذا البيت على المنتديات الإلكترونية لا يرى عيبًا في تطويعه للتكنولوجيا الحديثة لتكريس جاهلية القرون الأولى!

حين تتضخم الأنا الشوفينية لا تصبح هذه الأنا مركز الكون فقط، بل الكون ذاته الذي لا مكان فيه لأي أنا أخرى، بل تُفْصِح هذه الأنا الشوفينية عن ذاتها العُدوانية تجاه كل مَن سواها، ولا سيما في المناسبات الدورية التي تحتفل فيها هذه الأنا بذاتها. وهذا ما عبَّر عنه خيرَ تعبيرٍ الشاعر والصحفي السوري صابر فَلْحوط، رئيس اتحاد الصحفيين العرب سابقًا، في قوله:

أنا بَعْثٌ وَلْيَمُتْ أَعْداؤه     عَرَبِيٌّ، عَرَبِيٌّ، عَرَبِيْ

وقول فلحوط أيضًا لم يبقَ قول فردٍ بعينه، بل صار شعارًا شوفينيا ظل يردده طلابُ المدارس الإعدادية والثانوية حين يخرجون في مسيراتٍ حاشدة بمناسبة احتفالات حزب البعث بعيد ميلاده في السابع من نيسان من كل عام منذ الانقلاب البعثي في سوريا سنة 1963 إلى أن وَرِثَ بشار الأسد الحكم من أبيه سنة 2000، فأوقف هذه الاحتفالات الجماهيرية. هنا يختزل فلحوط العروبةَ في الأنا البعثية، ولذلك تصبح معادلة الأنا والآخر التي يُنْتِجُها منطقه الشوفيني على الشكل التالي: كلُّ عربيٍّ بعثيٌّ بالفطرة، ولذلك كل من يتنكر لهذه الفطرة يمرق من جلده العروبي البعثي، ولهذا فهو عدو مُرتدٌّ مُستباحٌ دمُهُ. والمفارقة في مقولة فلحوط التي تبَّنتها بعض القيادات البعثية ما بين 1963 حتى 2000 تكمن في كون هذه المقولة تمثل نُكوصًا رجعيًّا وإحياءً لنسق الجاهلية من قبل حزب يزعُم أنه تقدمي يرمي إلى بعث أمجاد الأمة العربية!

ومن المفارقات المضحكة أنه بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، ومساندة بعض دول الخليج للحراك الشعبي في سوريا – قبل أن "تتوب" هذه الدول توبةً نصوحةً عن "ضلالها" لاحقًا – باتت العروبة تُشْتَم جهارًا نهارًا في الإعلام البعثي العروبي نفسه حين راح يشير إلى عربِ الخليج بمسمّىً شعوبيٍّ حقودٍ هو "عُرْبان الخليج الفارسي"!