حرب الأخلاق بين الروبوت الحداثوي الغربي والشرق "البدائي"

2023.11.14 | 06:20 دمشق

دمار غزة
+A
حجم الخط
-A

يقول مسيحي مهاجر "قد توغر الزوجة الحاقدة صدر زوجها البسيط على أهله وقد تدفعه للقيام بقطيعة كبرى من -كثر النق- وهكذا فعل الغرب، فجلدنا أوطاننا ولولا الحنين ما عدنا قادرين على العودة للتفكير ببنائها خارج المقارنات التي أتخمنا بها".

مثلما سطت أميركا على البنك الدولي وربطت العملة الدولية بالدولار بدلاً من رصيد الذهب، خطف الغرب الضوء للتركيز على قيمه وأخلاقه والربط المعياري لهذه الأخيرة به عبر امتلاكه سطوة الحداثة واحتلاله لها، لا شك أن جزءا كبيرا من منظومة القيم الإنسانية العليا كان نظريا ومثاليا وضروريا في مجال حريات الشعوب وحقوقها في الاستقلال والمقاومة، لكنها -المنظومة- خضعت لصراع القوى مع آخر متخيل كهامش وتابع، أنجزت تأطيره عنوة وحبسته في صورة نمطية برمجت شعوبها عليها، بعد أن شغلتها بآلة الاقتصاد الكبيرة وبالركض هروبا من الحرية كما درسها إريك فروم في كتابه "الهروب من الحرية".

في خضم الافتراق العالمي شعبياً حول قضية أخلاقية كنضال الشعب الفلسطيني وحقه في الحياة؛ نجد من المجدي الانطلاق من زاوية مغايرة تفترض حربا عالمية بين منظومتين قيميتين هما المركز والأطراف أو الغرب والشرق..

ما عاد خافيا على ذي لب إدراك المركزية الغربية وأدوات تكريسها، وفي خضم الافتراق العالمي شعبياً حول قضية أخلاقية كنضال الشعب الفلسطيني وحقه في الحياة؛ نجد من المجدي الانطلاق من زاوية مغايرة تفترض حربا عالمية بين منظومتين قيميتين هما المركز والأطراف أو الغرب والشرق، في حين ابتدع لها مثقفو القارة السمراء في الشمال والجنوب، لكل منهما جبهة وحدود متداخلة، وفي حين تبدو موازين القوى غير متكافئة مذ بدء عصر الاستعمار؛ ما زال المركز الغربي متسلحاً بأدواته في حين يلجأ الشرق المبتلى إلى التسلح برصيده الوحيد – القيم والأخلاق- ولربما يتداخل ذلك مع الدين كرصيد روحي وعقدي.

تلتزم كل من الجبهتين بتصوّرات معيّنة تكرّست لعوامل تاريخية كثيرة، وعلى ثغور التضاد والهجوم والدفاع نجد قوى تختلف عن قواعدها، وخلخلة تشي بمتغيّرات ومفاعيل جديدة؛ في الجبهة الأولى يوجد المركز الغربي المتسلّح بمنجز علمي واقتصاد متين وسطوة وقدرة تحكم هائلة، في حين لا يمتلك الآخر سوى محاولة ترقيع ما تبقى من أمل في وجه الموت تحت الضربات المتكررة والحقد، نظرا لما يتكلفه من ثمن تحت وطأة حرب فرضت عليه وتنتهكه بلا أدوات مقاومة، وربما يفجر ثورة على أنظمة وضعها هذا الغرب لتكون وكيلة له تنجز مهمتها في بث الضعف والفرقة وإشغال الشعوب بنفسها وبلقمة خبزها.

كل طرف له موقفه رغم الفارق الحضاري بينهما؛ في حين يظهر موقف ثالث في كل من الجبهتين؛ واحد مشرقي منذهل بتلك السطوة ومقلد لها درجة التماهي، أو انبطاحي يتبع السوق الرائجة، والثاني هو النسبة الخارجة على مفهوم الهيمنة والتسلط والمركزية الغربية؛ نظيف، ونقي، ومتجرد من فكرة التبعية للشرق الضعيف المفتقر أصلا لعوامل القوة التي يمكن أن تشتري أحدا أو تستعبده.

في جبهة الموقف الثالث هذا، يظهر الأوروبي الإنساني الصادق والمتمرد والمستعد لدفع الثمن ويظهر تقدما وتميزا، يقع قبالته الانبطاحي المشرقي الذي يسجل تراجعا ملحوظا وهو مما لا يعول عليه؛ سوى في اشتغاله بالعواء لصالح مشغليه في حرب ثنائيات الغرب/الشرق، وسكت الآن قبالة شعب يذبح وما عاد قادراً على تدبيج تبرير للموقف المخزي، لتتضح معادلة جديدة في الهوامش التي أصبحت متونا يعول عليها في المستوى الإنساني والأخلاقي، إذ يسقط منها الانبطاحيون العرب، ويرتفع رصيد الإنسانيين الغربيين المؤمنين بقضايا الشرق وحقوقه.

في مقابلة تلفزيونية يعلّق مثقف فرنسي "نحن من نقتل المسلمين وشعوب الشرق في كل مكان"، ترد المحاورة عليه "ولكنهم يقاتلون بعضهم"؛ ولم يسعفه الوقت للقول إنّ قتالهم البيني كان بتأسيس وتسليح وتجييش من هذا الغرب اللعين ذاته أيضا، ككل عصابات التطرف الديني المسلمة والمسيحية لضمان السيطرة أو لتأمين مناجم الذهب والمعادن النادرة في أفريقيا، والعصابات القومية لتأمين النفط في مواضع أخرى، ودعم الكيان الصهيوني لتكريس دولة دينية عنصرية.

ولعل الحرب على الفلسطيني وحقّه في الحياة؛ واحتلال أحداثها عوالم التواصل العالمية قد خلخلت كثيرا من المسلمات لدى الكثير في مجتمعات شعوب الغرب والشرق، ما يدفع لقراءة جديدة خارج وهج وسائل الإعلام التقليدية الرسمية، ورب سائل يقول ماذا يحتم علينا هذا المتغير الجديد؟ لا بد والحال هذه أن تتم مراجعة الكثير من آفاق الاختلاف؛ شرط ابتعاد تلك المراجعة عن ذهنية الانبهار أو التبعية للمنجز الغربي من جهة، وشرط الابتعاد عن ثقافوية تولد ندية للغرب تسبغ عليه صفات جوهرانية من جهة ثانية.

ولعل طرحا كهذا يمثل رؤية كونية بعيدة عن كل القيم الخاصة بكل شعب أو أمة وحيادا مثاليا، وتلك مهمة عسيرة ليست مطلوبة ممن يخضع لحرب على ثقافته وقيمه ومجتمعاته وفكره، ويعاني وصاية وانتهاكا في شتى مجالات حياته الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولكي ننحت مسارا رصينا وجادة معرفية رغم ضيقها وعراقيلها؛ يجب النظر للغرب كآخر مختلف له ثقافته وقيمه الخاصة به، وتجريد منجزه الحضاري الثقافي والقيمي من مفاعيل الهيمنة والسلطة والتكريس؛ للإبقاء على ما يمكن استيعابه منها وتبنيه معزولا عن مفاهيم القوة والحكم والمركزية، والتركيز في جملة القيم المجردة من الأيديولوجيات، والتشابك مع الهوامش التي تنشأ وتزداد في مجتمعات الغرب المؤمنة بقضايا إنسانية تمس مصائر شعوبنا.

لأن الحداثة ملك الجميع وتشترك بها شعوب المعمورة ويمكن رفدها بقيم متعددة، فإن ذلك يدفع أيضا للقفز على حالة الدونية التي يشعر بها جزء من الشرق؛ ليفكّر فيما هو محلي له خصوصيته وجذوره وحوامله وسياقاته التاريخية المؤسسة له..

لقد كانت علاقتنا مع الغرب وقراءتنا له تبعا لعوامل القوة والقدرة على التأثير، وانشغلت أعيننا بمراكز القوى وليس على الشعوب، والآن ظهر قطب آخر أخلاقي قيمي يزيح الحدود التقليدية للحروب الدائرة في المجال المنظور، هو منبر أو ساحة تشابك، وجماعات متعددة، وحركات اجتماعية شعبية ذات تأثير في محيطها وقادرة على بلورة موقف شعبي ولو جزئيا، ما يحيل إلى ضرورة تطوير الرؤية والخطاب المشرقي عربيا وإسلاميا وإعلاء الكوني الإنساني على المحلي، مع ضرورة الاستفادة من هذا التشابك في كسر صور نمطية كثيرة وضرورة التسلح بلغة حوار بعيدة عن التأطير والأدلجة.

ولأن الحداثة ملك الجميع وتشترك بها شعوب المعمورة ويمكن رفدها بقيم متعددة، فإن ذلك يدفع أيضا للقفز على حالة الدونية التي يشعر بها جزء من الشرق؛ ليفكّر فيما هو محلي له خصوصيته وجذوره وحوامله وسياقاته التاريخية المؤسسة له، ومحاولة تجربة تفاعله مع الكوني الذي هو نتاج تفاعل قيم الحضارات المختلفة والشعوب المختلفة باختلاف قيمها.

تكمن النقطة الفارقة عن مراكز القوة في دخول جزء من شعوب تلك الدول التي تشربت القيم الإنسانية الكبرى بعيداً عن الصور النمطية التي سوّقت ما جعل الغرب يعيش افتراقاً مهماً يعوّل عليه في قضايا شعوب الشرق، ويدفع باتجاه عدم قراءته ككل واحد مخالف دينيا أو حضاريا، ولا النظر له كمؤيد في كل ما ننشد ونريد، بل مجالا لتلاقح ثقافي قيمي يفيد في الارتقاء خطوة توسع أفق الاختلاف معها في قضايا أخرى، ويفتح مجالا لممارسة السياسة والثقافة والتفاعل مع قيم أو برامج إنسانية بعيدة عن مراكز التأثير بدلا من الارتباط الأعمى بمشاريع مستوردة متحكمة. 

كلمات مفتاحية