بعد مرور أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، يبدو أن الحرب ما تزال بعيدة عن تحقيق أهدافها، إذ تتبع القوات الروسية حالياً استراتيجية تقوم على تحصين المناطق الانفصالية التابعة لروسيا في شرقي أوكرانيا، مع استعادة الجسر البري الواصل بين القرم وتلك المناطق. بما أن موسكو على ما يبدو قد تخلت عن هدفها المتمثل بتغيير النظام في أوكرانيا عبر احتلال كييف، على الأقل في الوقت الراهن.
على الرغم من أن الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية قد عزلت روسيا وأضرت بها كثيراً، فإن السبب الرئيسي الذي دفع روسيا لإعادة النظر بأهدافها يتلخص بالخسائر العسكرية الكبيرة التي تكبدتها هناك، إذ أعلنت القوات المسلحة الأوكرانية بأن أكثر من 4500 عربة عسكرية تعود للقوات المسلحة الروسية قد تم تدميرها وتعطيلها بشكل كامل، أو أصبحت غنيمة بيد القوات الأوكرانية.
وبالرغم من عدم وجود معلومات موضوعية محايدة حول تلك الخسائر التي وردت في البيانات الصادرة عن القوات المسلحة الأوكرانية، فإن عدد من قتلوا من الروس في أوكرانيا تجاوز 25 ألف جندي.
الأثر الذي خلفته الحرب في أوكرانيا على سوريا وليبيا
لم تؤثر الخسائر العسكرية الروسية على تطلعات روسيا في أوكرانيا فحسب، بل أثرت أيضاً على الوجود الروسي في الشرق الأوسط، إذ وردت أنباء تفيد بأن بعضاً من قطعات فاغنر التي تضم مرتزقة روساً سبق أن تم نشرهم في ليبيا وسوريا، قد بدأ سحبهم من هناك ثم إعادة نشرهم في أوكرانيا حتى يقوموا بدعم القوات الروسية.
وبعيد ذلك، قررت أنقرة إغلاق مجالها الجوي أمام الطيران العسكري والمدني الروسي الذي يحلق ما بين روسيا وسوريا، ولذلك أصبح الجسر الجوي ما بين قاعدة حميميم الجوية وروسيا أطول وأعلى كلفة. وبالمقابل، وفي تحرك مضاد لاستراتيجية الباب المفتوح تجاه المقاتلين الأجانب في أوكرانيا، لا سيما أمام مواطني دول الاتحاد الأوروبي، أعلنت روسيا بأن لديها متطوعين في الشرق الأوسط يرغبون في القتال إلى صفها.
وعقب هذا التحرك، أعلنت منظمتا المرصد السوري لحقوق الإنسان وسوريون من أجل الحقيقة والعدالة بأن روسيا سجلت الآلاف من السوريين الذين تطوعوا لديها حتى يتم نشرهم قريباً في إقليم دونباس، وتلك التحركات تعبر عن الأثر الذي خلفته الحرب في أوكرانيا وخسائر روسيا فيها على سوريا، وذلك لأن احتمال سحب روسيا لقواتها العسكرية من سوريا لا بد أن يضعف من نفوذها لصالح إيران، التي تعد حليفة لموسكو ومنافسة لها في سوريا.
يذكر أن مسؤولين رفيعين سوريين وإيرانيين التقوا خلال الأيام الأولى من الغزو الروسي لأوكرانيا وتناقشوا حول الفرص التي يمكن أن تلوح في حال تراجع النفوذ الروسي في سوريا على المدى المتوسط.
وفي الوقت الذي التقى فيه رئيس المؤسسة الاستخبارية لدى نظام الأسد، أي علي مملوك، بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، في طهران في 28 شباط الماضي، استقبل بشار الأسد نائب وزير الخارجية الإيراني علي أصغر حاجي في دمشق في الأول من آذار الفائت.
يرى أنطون مارداسوف، وهو خبير لدى المجلس الروسي للشؤون الدولية، في مقال نشرته صحيفة نيزافيزيمايا غازيتا الروسية بأن السياسة الخارجية لنظام الأسد التي تتجاوز السيطرة الروسية بدأت تقلق موسكو. وثمة احتمال يقضي بأن موقف النظام الإيراني قد يصبح أكثر وضوحاً تجاه الحرب الروسية-الإيرانية، وقد تؤثر نتائج ذلك على سوريا بكاملها، خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية، إذ سيصبح الخط الواصل بين درعا ودير الزور أهم منطقة سيشتد فيها التنافس بين إيران وروسيا خلال الأشهر المقبلة بعد غزو أوكرانيا، وذلك لأن هذه المنطقة بالتحديد تشهد حالة تنافس شديدة بين طهران وموسكو على الأرض، كما أنها استُهدفت بغارات جوية إسرائيلية وأميركية بصورة ممنهجة. ولهذا السبب، في حال انحسار النفوذ الروسي وتوسع النفوذ الإيراني، لا بد أن تزداد الغارات الجوية الإسرائيلية والأميركية التي تستهدف الميليشيات المدعومة إيرانياً في تلك المنطقة.
منذ مطلع عام 2021، شنت إسرائيل غارات جوية على عدد من الأهداف الإيرانية في دمشق وريفها واللاذقية ودير الزور وطرطوس وحلب وحمص والقنيطرة. إلا أن تل أبيب تحرص كل الحرص على عدم إقلاق موسكو على الرغم من اشتداد وتيرة هجماتها. وبالمقابل، لم تمنع روسيا وقوع تلك الهجمات بشكل كامل، بل سعت لحماية علاقتها مع إسرائيل في المنطقة، إلى جانب ضمان توجيه ضربة إسرائيلية للجهود الإيرانية الساعية لزيادة النفوذ الإيراني في سوريا.
يذكر أن إسرائيل استهدفت ميليشيات إيرانية معينة منها الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المدعومة إيرانياً مثل حزب الله، في الوقت الذي جابهت فيه الميليشيات المدعومة روسياً تلك القوات الموالية لإيران على الأرض. بيد أن رد طهران على سياسة موسكو المناهضة لإيران أتى عبر القوات الأجنبية التابعة للميليشيات المدعومة إيرانياً في تلك المنطقة، وكذلك عبر قوات جيش الدفاع الوطني التابع للنظام السوري، وقوات الدفاع المحلي، وقطعات الفيلق المدرع الرابع، فكانت النتيجة خسارة موسكو في هذا النزال.
السيناريو الأول
ثم إن الميليشيات المدعومة روسياً، والتي تضم ثواراً سابقين، تقهقرت في درعا، وهكذا تمكنت العناصر المدعومة من قبل إيران من التقدم وكسب الساحة. لذا فإن توسيع إيران لنفوذها في هذه المنطقة سيأتي عبر استغلال تراجع النفوذ الروسي هناك، وهذا ما يهدد نفوذ روسيا في المناطق القريبة من دمشق. ومن المحتمل أيضاً أن تزيد إسرائيل من غاراتها الجوية مع تدخلها بشكل محدود عبر الحدود إن أمكنها ذلك.
السيناريو الثاني
وثمة احتمال آخر يتمثل بارتفاع وتيرة وعدد الاغتيالات والهجمات المسلحة التي تستهدف شخصيات لدى النظام أو تلك التي تدعمها إيران في المنطقة، الأمر الذي سيحدث فراغاً في السلطة. إذ في الوقت الذي أقنعت فيه اتفاقيات المصالحة التي لعبت فيها روسيا دور الوسيط مقاتلي المعارضة السورية في درعا على التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فإن ذلك قد يتسبب في اختلال ميزان القوة لصالح النظام وإيران بعودة ظهور خلايا خفية من المعارضة التي ستعاود نشاطها في تلك المنطقة.
السيناريو الثالث
وبالمقابل، عملت إيران في دير الزور على تحويل المنطقة إلى مركز لميليشياتها، إذ تمركزت القوات التابعة لكل من الحرس الثوري وحزب الله ولواء الباقر ولواء فاطميون، وحركة النجباء التابعة لحزب الله وكتائب سيد الشهداء على الخط الذي يصل بين البوكمال جنوباً والتبني شمالاً. وهذا الوجود الميليشياوي الهائل هناك يعد ضماناً لوجستياً للميليشيات العراقية والسورية التابعة لإيران، وذلك لأن طهران تستعين بتلك الميليشيات لترجح كفتها بحيث تخلق حالة توازن وتعادل مع قوات سوريا الديمقراطية وروسيا، كما أنها تسعى لجعل تلك الميليشيات عنصراً فاعلاً دائماً في دير الزور وذلك عبر المراكز الثقافية والمنظمات غير الحكومية التي تقيمها فضلاً عن شرائها لعقارات كثيرة هناك.
وفي هذه الأثناء، تحاول روسيا أن تخلق حالة توازن بالقوى وذلك عبر زيادة جهودها الدبلوماسية مع القبائل العربية في دير الزور، وعبر تجنيد ميليشيات من أبناء تلك المنطقة. إلا أن الآثار المالية لغزو أوكرانيا يمكن أن تحبط مخططات روسيا في دير الزور، وهذا ما سيدفع طهران التي لا تعاني من أي مشكلة لوجستية أو مالية هناك، لتوسيع نفوذها في دير الزور.
لقد أصبحت الحدود السورية-العراقية مجالاً للنفوذ الإيراني الكامل، وهذا ما قد يبرر تدخل إسرائيل والولايات المتحدة، والذي سيترجم على شكل غارات جوية مكثفة وعمليات خاصة ضد الميليشيات المدعومة إيرانياً، وهذا السيناريو قد يتسبب بإحداث فوضى شاملة في المنطقة، وقد تنتهز داعش تلك الفرصة لتعزيز وجودها في البادية السورية.
إن الخسائر الروسية على الجبهة الأوكرانية شجعت إيران الراغبة في أن تصبح لاعباً قيادياً في سوريا للتوغل أكثر فيها. ولكن حتى الآن لا يوجد سوى إسرائيل والولايات المتحدة يمكنهما أن يلعبا دور اللاعبين اللذين سيقفان في وجه تلك التحركات الإيرانية، بما أن إيران أخذت توسع نفوذها في جنوبي سوريا وشرقيها بشكل خاص، وذلك عبر الميليشيات التي تدعمها. وبالمقابل، قد تتغاضى روسيا عن تدخلات كثير من اللاعبين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل، حتى تخلق حالة من التوازن إزاء ما تحاول طهران تحقيقه في سوريا.
المصدر: بوليتيكس توداي