اقترن اسم الكاتب السوري "ممدوح حمادة" بالكوميديا التلفزيونية.. أظن أن قليلاً من المتابعين والمهتمين يعرفون أنه روائي، وكاتب قصة قصيرة، ومتميزٌ في هذين المجالين، أيضاً.
لم يكن المشاهد العربي - حتى في مصر التي يمكن اعتبارُها "أمَّ الدنيا" في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني - ينتبه لاسم المؤلف، ولا حتى المخرج، باستثناء المتخصصين.
مشاهدو المسلسلات الكوميدية السورية، في الستينيات والسبعينيات، كـ مقالب غوار، ومقهى الانشراح، وحمام الهنا، كانوا يجهلون أن مؤلفها نهاد قلعي، ومخرجها خلدون المالح، ويوم عُرضت مسرحية "ضيعة تشرين"، أول مرة في سنة 1974، وبسبب نجاحها المدوي، وإعادتها على القناة الأولى مرات ومرات، عرف بعض الناس أن مؤلفها محمد الماغوط، ولكن نسبة ضئيلة من هذا الـ "بعض" – فقط – كانوا يعرفون أن الماغوط واحد من أبرز شعراء "قصيدة النثر"، ومن أهم الكتاب المسرحيين، وأن مستواه في كتابة الزاوية الصحفية الساخرة لا يدانيه سوى الأديبين حسيب كيالي وغسان الرفاعي.
إضافة (1): من الأشياء العجيبة أن بعض المثقفين، في تلك الأيام، كانوا يسألون أصحاب أكشاك بيع الصحف عن "مجلة الشرطة"، فيندهش هؤلاء لعلمهم أنها مجلة كاسدة، وبعد لأي عرفوا أنها أصبحت تُطلب لأن محمد الماغوط ينشر مقالة في كل عدد منها.
في التسعينيات، بدأ الناس يتحدثون عن السيناريست المصري أسامة أنور عكاشة، مؤلف الأعمال التلفزيونية المصرية الضخمة مثل "ليالي الحلمية" ذي الأجزاء المتلاحقة، وأرابيسك، وزيزينيا، والراية البيضا، وأهالينا..
إضافة 2: بالمناسبة، أسامة أنور عكاشة، هو الآخر أديب، له عدد من المجموعات القصصية المطبوعة..
ومن ثم أصبحنا، نحن السوريين، ننتبه إلى حقل المؤلف في تيترات مسلسلاتنا، ونحفظ أسماء بعض الكتاب السوريين الأوائل، مثل عبد العزيز هلال، وممدوح عدوان، وعبد النبي حجازي، وداوود شيخاني، وهاني السعدي، ومع بداية الفورة الإنتاجية التلفزيونية، أواسط التسعينيات، لفت نظرنا اسم الكاتب الفلسطيني المتميز الدكتور وليد سيف، بوصفه مؤلفَ الأعمال الضخمة التي يُخرجها حاتم علي، (ربيع قرطبة، صقر قريش، التغريبة الفلسطينية..) وتميزت أسماء أخرى في تأليف الأعمال الاجتماعية المعاصرة مثل أمل وريم حنا، وخالد خليفة، ونهاد سيريس، والثنائي حسن سامي اليوسف ونجيب نصير، وأمل حنا، ورافي وهبي، ويم مشهدي، وآخرين..
في سنة 1994، بعد المشكلات التي وقعت بين شركة الشام ومؤلف مسلسل "عيلة خمس نجوم"، الذي تُمَثَّل أحداثُه كلها ضمن استوديو صغير، ظهر اسم الكاتب ممدوح حمادة في تأليف الأجزاء 6 و 7و 8 من عائلة النجوم، ولكن هذه الأعمال لم تبلغ شأناً رفيعاً، بسبب سجنها في المكان الضيق، وإصرار المخرج هشام شربتجي على الأوفرة (التهريج) في الحركات، بالإضافة لكون فكرة هذه المسلسلات، في الأساس، ليست من ابتكاره.
الظهور الأول اللافت لممدوح حمادة كان في مسلسل "قانون ولكن" الذي أخرجته، على نحو أنيق، رشا شربتجي، ولعب فيه بسام كوسا دوراً طريفاً جداً
الظهور الأول اللافت لممدوح حمادة كان في مسلسل "قانون ولكن" الذي أخرجته، على نحو أنيق، رشا شربتجي، ولعب فيه بسام كوسا دوراً طريفاً جداً.. وأما النقلة النوعية الكبيرة التي كرسته مؤلفاً كوميدياً استئنائياً، فكانت، فيما أزعم، بلقائه مع المخرج "الليث حجو"، في مسلسل من جزأين يحمل اسم "ضيعة ضايعة"، الذي اعتمد، بشكل أساسي على نجمين كوميديين متألقين هما باسم ياخور ونضال سيجري.. وتُوج ذلك التعاون الناجح في مسلسل "الخربة"..
ربما يعتبرني بعض المتابعين مغالياً إذا قلت إن أفضل مخرج سوري اشتغل في إخراج الكوميديا التلفزيونية السورية حتى الآن هو الليث حجو، وأحسن مؤلف كوميديا هو ممدوح حمادة، وأفضل ما قدمه هذا الثنائي هو مسلسل "الخربة".
إضافة 3: ثمة مخرجون كبار برعوا في الكوميديا، ولكن خطهم الإخراجي العام (درامي)، مثل مأمون البني الذي أخرج بعض مرايا ياسر العظمة، و"صوت الفضاء الرنان"، وهيثم حقي الذي أخرج مسلسل "الدغري"، وحاتم علي الذي أخرج جزأين من (مرايا)..
سأحاول فيما يلي، بيان الأسباب التي بنيت عليها رأيي بخصوص ممدوح حمادة، والليث حجو، ومسلسل الخربة:
أولاً- بدأ الليث حجو تجربته الإخراجية، في الكوميديا، سنة 2001، وهو الذي قدم أول تجربة من بقعة ضوء (light spot) بنجاح باهر، ومعلوم أن سلاسل بقعة ضوء، بإيقاعها السريع، وتنوع كتابها، وكثرة الكاراكترات الكوميدية فيها، قد سحبت البساط من تحت مرايا ياسر العظمة ذات النمط الذي يعتمد على ممثل واحد تدور حوله الشخصيات الأخرى، دون أن يكون لها مساحات إبداعية خاصة بها.
ثانياً- وبخصوص مسلسل "الخربة"، أول عوامل النجاح، في زعمي، هو إتقان اللهجة.. وللتذكير، فإن هناك أعمالاً تلفزيونية تناولت البيئة الحلبية، كان نصف الممثلين فيها، على الأقل، (شوام) لا يتقنون لهجة أهل حلب، وكانت تلك، برأيي، نقطة ضعف مهمة، وأما نَص "الخربة" فلهجته متقنة، وهذا أمر متوقع لأن ممدوح حمادة عاش طفولته وصباه في السويداء.. وللحقيقة إن اللهجة المتقنة التي استخدمت في المسلسل تحولت إلى كاراكتر كوميدي قائم بذاته، أضفى على أحداث المسلسل نكهة خاصة.
ثالثاً- سر النجاح الكبير الذي حققه ممدوح حمادة في مسلسل "الخربة"، أنه رسم، بعناية فائقة، شخصيات تحتوي على عاهات نفسية، وطباع متصلبة، مضحكة، دون أن يلجأ إلى المبالغة، أو التزوير، وكل واحد من الشخصيات المكتوبة يتيح للممثل أن يصنع كاراكتراً كوميدياً خاصاً به، ويكون واجباً على المخرج، في هذه الحالة، أن يضبط شكلَ هذه الكاراكترات وإيقاعاتها، لئلا يقع الممثلون في مطب الكومكة المجانية "التهريج"..
رابعاً- ممثلو الكوميديا، بشكل عام، أنواع. الأول ممثل يظهر في كاراكتر، ويلبس ذلك الكاراكتر طوال عمره، مثل نهاد قلعي "حسني البورظان"، ومحمد العقاد "أبو جاسم"، ومحمد الشماط "أبو رياح"، ونجاح حفيظ "فطوم"، وياسين بقوش "ياسينو"، وناجي جبر "أبو عنتر"، والثاني هو الممثل الذي يصنع في كل عمل فني كاراكتراً جديداً، من هؤلاء أذكر بسام كوسا، وباسم ياخور، وفايز قزق، ومحمد خير جراح، وعبد المنعم عمايري، وأمل عرفة.. النوع الثالث هو الممثل الجيد الذي يتقن أدواره كلها دون أن يهتم بصناعة الكاراكترات، ومن هؤلاء يوجد نجوم كبار معروفون.
شاهدنا في مسلسل الخربة شخصيات "كاراكترات" مشوهة ومتصلبة، استطاعت أن تحول هذه القرية النائية، غير الموجودة على الخريطة، إلى ما يشبه العصفورية الطليقة:
- أبو نايف، وأبو نمر، يمثلان العداء العائلي التقليدي، الوراثي الذي لا معنى له سوى ضيق الأفق، والغباء.
- الرفيق جوهر، البعثي المهووس بالخطابات والتدشين وحجر الأساس.
- الرفيقان الشيوعيان اللذان يضارعان الرفيق البعثي في التسطح والغباء، جميل (ممدوح الأطرش)، وملحم (مشهور خيزران)، الأستاذ صياح المهووس بالمثالية العلمية (جمال العلي) حتى بدا أنه معتوه
وهناك راعي العجال الذي يخور كعجاله، وهذا من أجمل الأدوار التي أداها محمد حداقي طوال حياته، والكلام نفسه ينطبق على جامع القمامة البخيل (أحمد الأحمد)، نفجة الغبية، ضحى الدبس الممثلة البارعة التي تمكنت من صنع كاراكتر في هندامها يتمثل بحركة يديها وهي تغير موضع ثوبها، وفي الحالة النفسية تتمثل بكونها تؤيد أباها دون تفكير، عبود الكازية الذي لا يقتصر عمله في القرية على البيع والشراء، بل يلعب دوراً مركزياً في مشكلات أهل القرية. ندى، ابنة صياح، التي تقوم حياتها كلها على مجيء العريس، أي عريس، وقد تحول هوسها بالعريس إلى عقدة، عطرشان التي تخترع الأمثال الشعبية، ومثلها رياض الذي يحاول تذكر أبيات شعر تشبه الأمثال.
إضافة 4: الممثلون الذين يعتمدون على الصوت في صناعة الكاراكتر قليلون جداً، منهم أنور البابا، ونهاد قلعي، وياسين بقوش، وعبد الله النشواتي، ومحمد خير الجراح في دور جوهر.
إضافة 5: طوال حياته الفنية لم يقدم رشيد عساف دوراً بهذه السوية.