للشاعر الإنجليزي، الأسترالي المولد، پيتر پورتر (1929-2010) قصيدة فكاهية ساخرة بعنوان Mort Aux Chats (أي، بالفرنسية، الموت للقطط). لا ندرك أن المتحدث في القصيدة كلبٌ إلا في سطرها الأخير حين يقول: "سيدوم/ حكمُ الكلابِ ألفَ عامٍ". ولا ندرك أيضًا أن القصيدةَ رمزيةٌ إلا حين يقول الراوي/ الكلب في القصيدة:
"قد تكون [القطط] لا بأس بها في
بلادها ولكن
تقاليدها غريبة عن تقاليدنا".
وفي منتصف القصيدة، وخِضَمِّ هجومه الكاسح على القطط، ينفي هذا الكلب أي منجز ثقافي لها:
"لم يكن بين القطط
أي فنانين عظماء".
وقبل نهاية القصيدة يتساءل الكلب أيضًا:
"لماذا
"تتمسك القطط بلغتها ودينها، مَنْ
يَهِرُّ ليعبر عن نفسه؟".
هنا ندرك أن القضية ليست قضية قطط وكلاب، إنما استخدم الشاعر العداوة التقليدية بين الكلاب والقطط لطرح قضية العنصرية وكره الأجانب وليبين تهافت المنطق العنصري وسخف ادعاءاته. فالقطط – وهي الطرف الأضعف في هذه المعادلة – ترمز إلى اللاجئين أو المهاجرين أو الوافدين الأجانب، بينما يمثل الكلب العقلية العنصرية العمياء الحاقدة التي تُحمِّل هؤلاء المستضعفين مسؤوليةَ كل كارثة (حقيقية أو متخيلة) أو ركود اقتصادي في البلاد (كما يفعل الكلبُ حين يحمِّل القططَ مسؤولية صداعه المزمن وموت نباتاته المنزلية أو حين يدَّعي أن قيمة العقارات في منطقته قد انخفضت بسبب سكن القطط فيها). ومبلغ الدلالة في القصيدة يكمن في شكلها بقدر ما يكمن في مضمونها. فالعنوان العريض للقصيدة، بالمعنَيَيْن الحرفي والمجازي، هو الموت للقطط. لكن هذا العنوان مُعَمّى بلغة فرنسية قد لا يفهمها كل القراء أو المستمعين، لذلك كان لا بد للكلب أن يفصح في السطر الأول من القصيدة عن أمنيته بأن تنقرض القطط بلغة إنجليزية لا لبس فيها: "لا قطط بعد اليوم." ثم يختتمها أيضًا بالأمنية ذاتها وإن بتعبير أشدَّ عنفًا (وختامُ القصيدة بما استهلت به يدل على المنطق الأجوف الذي يُراوِح مكانه – فما بين مطلع القصيدة وختامها تفاصيل لا أهمية جوهرية لها). وهذا هو الحُكم النهائي الذي توصل إليه الكلب الذي اتخذ صفة الخصم والحَكَم للبت في النزاع (المفتَعل أو المتخيَّل) بين الكلاب والقطط. لكن بخلاف ما يجري عادةً في المحاكم، ينطق "القاضي" الكلب بالحكم قبل أن يسرد حيثياته ومسوغاته. وهنا يستدرك الحَكَم المتحامل هذه الهفوة على الفور، فيبدأ يرقِّع بسرد ما يراه مسوغاتٍ لحكمه الجائر – مهما كانت هذه المسوغات تافهةً أو مُبالَغًا فيها أو لا أساسَ لها في الواقع.
***
من المسوغات التي يسوقها الكلب للحُكم على القطط بالإعدام أنها تنشر العدوى، وتُلَوِّث الهواء، وتستهلك سبعةَ أضعافِ وزنهاِ من الطعام كل أسبوع (وهذه مبالغة مضحكة)، وأنها كانت تُعْبَد في المجتمعات "المنحطة" (مثل مصر وروما القديمة؛ أما الإغريق، أهل الحضارة، فلم يجدوا للقطط فائدة). ومما يعترض عليه الكلب أيضًا في سلوك القطط هو أنها تجلس حين تتبوَّل (ولا سبيل لإنكار ذلك لأن علماءَ الكلاب قد أثبتوا هذا السلوك "المُشين" بالدليل العلمي القاطع)، وأن تَسَافُدها شيءٌ فظيع (وكأن الكلاب أرقى خُلُقًا في تَسَافُدها)؛ كما أنها مولعةٌ بالقمر ولعًا لا يُطاق، ولها رائحة طبيعية كريهة، وهي تُكْثِرُ من مشاهدة التلفاز (وهذه دلالة على كسلها المزعوم)، ويمكنها أن تنام في العواصف (وهذه دلالة على بَلادتها المزعومة)، وقد غدرت بالكلاب آخرَ مرةٍ (من دون تحديد كيفية الغدر وزمانه). وبما أنه ليس بين القطط أي فنانين عظماء (ولذلك ليس لها أي وزن ثقافي في ميزان الأمم المتحضرة)، فهي لا تستحق حرف C كبير إلا في بداية الجملة (وكتابة أول حرف من اسمها بحرف كبير في بداية الجملة هو امتثال لقواعد اللغة الإنجليزية لا احترامًا لعَلَمِيَّة القطط).
وبما أن الكلب يرى نفسه من "الفِرْقة الناجية" – ولذلك لا أحد يستحق العيش إلا هو وفصيلته – نستشف من ذلك تصوره للكون المتمركز على ذاته الكلبية التي لا ترى في خالق هذا الكون إلا أداةً لتنفيذ رغباتها: "وحين أحلم بالله أرى/ مجزرةً للقطط." في دنيا عَقُورِستان – والعَقُور هو الكلب الغدَّار – الذي يُبيد الله فيه القِططَ تلبيةً لرغبة كلبه المُجْتَبى، يختتم الكلب مونولوجه الدرامي بما استهل به من حيث المضمون: "الموتُ لجميع القطط! سيدوم/ حكمُ الكلابِ ألفَ عامٍ!".
***
باختصار، يصور پورتر مخلوقًا عنصريًا موتورًا (في هيئة كلب)، مخلوقًا يرى أن بلادَه مأزومةٌ، مخلوقًا يحمِّل القطط مسؤولية هذه الأزمة بلا مسوغ منطقي، ولذلك يرى أن "الحل النهائي" (على الطريقة الهتلرية) يكمن في إبادة القطط على بكرة أبيها. ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن كل عيب يراه الكلب في سلوك القطط – حتى وإن كان سلوكًا طبيعيًا كالتبوُّل وهي جالسة – لا يُراد منه ترذيل سلوك القطط فحسب، وإنما يُراد به أيضًا ادِّعاء الكلب له ولفصيلته سلوكًا أرقى من سلوك القطط (حتى أمنيته بإبادة القطط يعبر عنها بلغة فرنسية "راقية" في عنوان القصيدة). كما نلحظ أن العِلْم الزائف – المتمثل في إثبات علماء الكلاب جلوس القطط للتبول، وهو أمرٌ بدهي لا يحتاج إلى برهان علمي – يوظَّف لتسويغ ادعاءات باطلة. لكن أسلوب المبالغة الذي استخدمه الشاعر يجعل اتهامات الكلب وشكواه سخيفةً سخفًا لا ينطلي على أحد (وكأن طريقة تبول الكلاب أرقى من طريقة القطط)، وهدف الشاعر هو تسليط الضوء على منطق العنصريين الأجنف. فالكلب يدَّعي، منذ البيت الثاني في القصيدة، أن القطط خطرٌ على الصحة العامة (فهي تنشر العدوى وتُلَوِّث الهواء). وبما أن المجتمعات "المنحطة" (مصر وروما القديمة) كانت تعبُد القطط بزعم الكلب، فهذه إدانةٌ لانحطاط القطط الأخلاقي والحضاري المزعوم (من باب أن المرءَ يُعرَف بقرينه). ويتجلى كُرْهُ الأجانب من خلال قول الكلب إن تقاليد القطط غريبة عن تقاليد الكلاب، وهذا يجعل وجودها في بلاد الكلاب أمرًا لا يجب التهاون فيه أو التسامح معه. ولكن تذمر الكلب وسخف ادعاءاته يبلغ ذروته حين يعزو للقطط سلوكياتٍ بشريةً كالغدر والخيانة (وهنا يسلط الشاعر الضوء على هذيان الكلب ولاعقلانيته).
باختصار، أبدع پورتر في تصوير العقلية العنصرية بهذه القصيدة الرمزية الفكاهية الساخرة التي تَقِلُّ كلماتها عن 200 كلمة، بينما لو أراد عالم اجتماع فعل الشيء ذاته لاحتاج إلى ألوف من الكلمات. ففي شخصية الكلب المَوْتور المتحامل على القطط مرآةٌ واقعيةٌ للعنصري المدفوع بكره الأجانب (لاجئين أو مهاجرين أو حتى سياح)، وباختيار المونولوج الدرامي شكلاً للقصيدة تمكن الشاعر من جعل الكلب يهجو نفسه في الوقت الذي ظن فيه أنه يهجو القطط. إذ لا يمكن لقارئ عاقل أن يستمع إلى منطق الكلب إلا أن يُدينه هو لا القطط. هكذا بيَّن پورتر طبيعة التحامل وشيطنة الآخر والتفكير اللاعقلاني الذي يتصف به العنصريون.