تنهَضُ رواية "حارس الفيسبوك" للروائيّ المصري شريف صالح، والصّادرة عن الدار المصريّة اللّبنانيّة في القاهرة (مصر)، على أساليب الوجود المَعيشة في عالَم الفيسبوك الافتراضيّ، حيث يبدو هذا العالَم كأنَّهُ حلَّ في الرواية مكانَ العالَم الوقائعيّ على نحْوٍ شبه تام وجوديّاً ومَجازيّاً، أو باتَ كأنَّهُ الأصل الذي تُبنَى على تفاصيلِهِ وسردياتِهِ وأحداثِهِ (التي يُشكِّل الإنترنت وتطبيق شركة الفيسبوك فضاءَها) دلالاتُ الحياة الإنسانيّة الحقيقيّة المُعاصِرة في حقبة العولمة.
يُؤسّسُ المُؤلِّف بُؤرة توليد المَعنى الفنِّيّ والمَضمونيّ في روايتِهِ على حدَث خطير يدعوه "يوم القيامة الافتراضيّ"، حيثُ تنهارُ في السّاعة التّاسعة مساء أحد الأيّام خدمة الفيسبوك، بما يحتوي من أيقونات وبروفايلات وألبومات صور ورسائل مُتبادَلة، وتغدو كُلّ المَعلومات الشَّخصيّة، وأرشيفات المُشتركين، مُتاحة للجميع، في انتهاكٍ لا مثيل لهُ للخُصوصيّة، وما يحمل ذلكَ من إشكاليّات وكوارث وكشف أسرار فرديّة وعائليّة واجتماعيّة تنعكِسُ على الجميع من دون استثناء.
تُثيرُ حادثة يوم القيامة الافتراضيّ ذعراً وهلعاً عامّاً لا مثيلَ لهُ، وفي ظلّ فوضى انهيار خدمة الفيسبوك، ينكشِفُ مدى الفضائح السِّرِّيّة التي تنطوي عليها علاقات الفيسبوك، ومدى تجاوُزِها لأقنعة الحدود الاجتماعيّة التي تحكُم علاقاتنا الوقائعيّة الظّاهِرة، كأنَّما هذا العالَم الافتراضيّ قد تحوَّل إلى المُدوَّنة الأصليّة لحقيقة المُجتمَع.
أو بمَعنىً آخَر: كأنَّ العلاقات الاجتماعيّة والمَسكوت عنهُ فيها قد انزاحَ إلى هذا الفضاء الافتراضيّ السِّرِّيّ، فباتَ هو بُؤرة بسط جدَليّات أساليب الوجود الوقائعيّة وانزياحاتِها الاجتماعيّة بما تحمل من آلام وإحباطات وفراغات نفسيّة وعاطفيّة وعمَليّة ذاتيّة وجمعيّة، وبما تنطوي عليه من أنماط من الاستهلاك وسُلطة السُّوق وتسليع العلاقات الإنسانيّة الاجتماعيّة، حيثُ يتوازى انهيار منظومة القيَم مع خلخلة الهُوِيّات الفرديّة والجَمعيّة بفعل آليّات العولمة وثورة الاتّصالات والرَّقميّات وسيولة انتقال المعلومات، وكُلّ ما ينجم عن ذلكَ من قهر استلابيّ واستعباد أمامَ ما أفرزتْهُ تقنيّات العولمة.
***
من الحكايات المُتعدِّدة التي ترويها الرِّواية بعد حدوث فوضى انهيار الفيسبوك، واستباحة خُصوصيّات المُستخدمين، حينَ تغدو مُشاعاً للجميع، وتكشف حجم العلاقات الخفيّة المُتداخلة والمُتراكِبة إلى حدّ العبثيّة، حكاية الزَّوج "رشدي" الذي يُحاول استغلال علاقات زوجتِهِ "مهلبية" الجنسيّة مع عشّاقِها في ابتزاز "عبد الرَّحمن" المـُحاسِب، بغية الحصول منه على عشرين ألف جنيه في مقابل التغاضي عن الاتهامات التي وثَّقتها "مهلبية" ضدَّهُ -إذعاناً منها لمُؤامرة زوجها رشدي- في محضر كتبَهُ الصول عبد القوي، وهيَ التي تُعاني من إهمالِهِ البالِغ لها، في الوقت الذي تُقيم فيه عشرات العلاقات الافتراضيّة على الفيسبوك مع رجال من جميع الأقطار العربيّة.
ومن الحكايات اللّافتة في مَحاوِر الرواية حكاية "هدى" مع زوجها "عبد الرَّحمن"، فهو يضاجع النِّساء الافتراضيّات على الشات، لكنَّهُ يُهمِلُ زوجته وابنتهُما، لتنساق بدورها إلى علاقة مع "أحمد علوي".
وفي مُقابل شُعور "هدى" بإهمال زوجها لها، ثُمَّ خيانته، يشعر خالُها الشاعر "علي نجيب" بالافتقاد إلى حنان المرأة، وهو الذي أخفَقَ في زواجِهِ، وفرَضَتْ عليه زوجتُهُ الطَّلاق، لتعيش بعيداً عنه مع ابنتِهِ الوحيدة في شقة في المعادي اشتراها بكل مُدخراته وإرثه من والديه.
ومن حكايات الرّواية أيضاً حكاية المحامية والأستاذة الجامعية التي يُرتِّب لها المدعو "زيزو"، وهو أحد عشّاق "مهلبية" صديقة هذه المحاميّة مواعيدَ غراميّة في شقته مقابل عمولة، ويبدو أنَّ مُمارَستها للجنس ليسَتْ من باب الدَّعارة كما يحاول الراوي أنْ يُظهِر؛ إنَّما من باب المُتعة المحضة، ولا سيما أنَّ "زيزو" يُحضِرُ لها شُبَّاناً صغاراً بعمر العشرينات والثلاثينات لإرضاء أهوائِها الجنسيّة الجامِحة.
لا تنتهي الأمور عندَ انكشاف حجم العلاقات الاجتماعيّة المُتشابِكة والسِّرِّيّة، ومدى انفلات منظومة المعايير، وتداخُل أساليب وجود الجنس والدَّعارة والخيانات والأقنعة الهشَّة الكاذبة، لكنَّ هذِهِ الفوضى الفيسبوكيّة أيضاً تُظهِر إلى جانب التَّشظِّي الاجتماعيّ، الاختراقات الأمنيّة والسِّياسيّة من مُنظَّمات وأجهزة استخبارات دوليّة لمجتمعاتنا، كما هو الحال في علاقة "منال" بِـ "ديفيد" النّاشِط الحقوقيّ الأميركيّ.
فقد وفَّرَ لها فرَصاً لكسب أموال كثيرة ومشبوهة، وساعدَها في الحصول على فيزا السَّفر إلى أمريكا، وكانت قبلَ تعرُّفها عليه قد أقامت علاقة جنسيّة مع أستاذها "أحمد علوي"، كما تزوجت من مهندس لمدة قصيرة قبلَ طلاقِها منه، لتعيش حياتها بعدَ ذلكَ مُتمرِّدةً ومُتسكِّعةً بين المطاعم والمقاهي والبارات والعلاقات المشبوهة.
***
يُقسِّمُ المُؤلِّف الرِّواية ستةً وثلاثين قسماً، ويبدأ زمان السَّرد الرّوائيّ الذي تدومُ أحداثُه حوالي اثنتي عشرة ساعة، من القسم السّادس والثَّلاثين رجوعاً إلى الوراء في زمن خطِّيّ معكوس في الإطار العام، وصولاً إلى القسم الأوَّل الذي ينتهي برسالة التَّحذير الآتية من إدارة الفيسبوك:
"فوق بقايا هذا الحطام العائم، ظهرت آليّاً رسالة تحذير في مستطيل أحمر، ظلت تومض وتنطفئ.. هذا نصها:
عملاؤنا الكرام
ثمة خلل تقني يجري الآن التعامل معه.
اطمئنوا تماماً على كلماتكم وتدويناتكم وصوركم العزيزة على قلوبكم، فكل ما تقومون به يتم إيداعه تلقائيّاً في Storage Cloud وهي تشبه علبة ذكريات عملاقة تتسع للبشرية كلها. وسوف تتم استعادة أي ذكريات تهمُّكم فور معالجة الخلل التقني.
مع تحيات إدارة الفيسبوك".
لكنَّ هذا المَسار الرِّوائيّ العكسيّ لا يعني اعتمادَ مسارٍ خطيٍّ مُتماسكٍ في أساليب سرد الحكايات والأحداث والحوارات، فهناك تراكُب سرديّ يقوم على الرُّجوع والاستباق ثم العودة، وهناك زمان مُتشظٍّ لا زمان مُتَّصل أو تعاقبيّ، وهُناك تشتُّت في الأحداث على المُستوى الفرديّ والجَمعيّ على نحْوٍ يأتلف مع بِنية شخصيّات تنتمي بكُلّ مَعنى الكلمة إلى عالَم الفيسبوك الافتراضيّ بوصفِهِ إحدى البُؤر المركزيّة لانعكاس جدَليّات أساليب وجود العالَم (الوقائعيّ/ الاجتماعيّ) وانزياحاتِهِ النَّسَقيّة في عصر العولمة الرَّقميَّة.
يكشفُ انهيارُ خدمة الفيسبوك في هذهِ الرواية حجمَ انزياح أساليب الوجود (الاجتماعيّة)، وذلكَ على حامِل تحوُّلات منظومة القيَم التي تجذَّرَت على نحْوٍ ما في سُلطة السّوق وثقافة التَّسليع التي يُمثِّل عالَم الفيسبوك أحد ملامحها الظّاهرة، حيثُ أصبحت أساليب الوجود تتمركز في حُضورٍ طاغٍ لنمطٍ من العلاقات الاجتماعيّة المُعبِّرة عن اقتحام سُلطة الاستهلاك الرَّقميَّة حتّى للعلاقات الحميمة، كأنَّ الذي يحدث هو تشظٍّ اجتماعيّ واقعيّ نسَقُهُ الظّاهِر هو الفيسبوك في هذِهِ الرواية، حيثُ الانتقالُ السَّهل والسطحيّ في التَّواصُل بين الشَّخصيّات على حساب العُمق الإنسانيّ.
فضلاً عن ذلكَ، فقد فضحتْ لحظة انهيار الفيسبوك بما تنطوي عليهِ من دلالاتِ تفتُّتِ بنى المجتمع الوقائعيّ، مدى افتقاد هذا المجتمع إلى الصِّدقيَّة أوَّلاً، وإلى التَّماسُك المَعرفيّ الرَّصين ثانياً، ليبدو كُلّ شيء مُباحاً أمام سيولةِ انتقال المعلومات، وأمام سُرعة الاتّصالات، ونفعية العلاقات الاجتماعيّة، ولا سيما أنَّ المَعلومة البسيطة السَّطحيّة لم تعُدْ تختلف، في معظم الأحوال، في حضورها وتوظيفها واستهلاكِها كثيراً عن المَعلومة القيِّمة أو ذات التَّأثير العالَميّ الكبير، وبدَتِ الخُصوصيّات (الاجتماعيّة) مَهدورةً في مَرمى تماهي العالَم الافتراضيّ مع النَّظرة الرَّقميّة حتّى إلى الإنسان.
***
وفي ظلِّ كُلِّ هذا التَّمزُّق الوجوديّ والكيانيّ، قد يكونُ من المُستساغِ القولُ بوقوع شخصيات الرواية تحت سطوة رغبة الهروب من المُستوى الوقائعيّ الاجتماعيّ (الهوية المحلِّية)، للبحث عن الكينونة المفقودة في عالَم الفيسبوك بوصفِهِ أحد مَعالِم (الهُوِيّة العولميّة/ العالَميَّة)، وهذا ما يُمكِنُ أنْ يُشيرَ، في الوقتِ نفسِهِ، إلى أنَّ تلكَ الشَّخصيّات تعاني اغتراباً هوياتياً أعمق بفعلِ إخفاقِها غالباً بمُجاراة أساليب وجود العولمة، ومُتطلَّباتِها الرقمية المُتسارعة باستمرار.
ولهذا، تبدو تلكَ الشَّخصيّات محكومةً -بقوّة- بسُلطة القهر الاستلابيّ للعولمة، إذ تتحوَّل من دون وعيٍ -على الأرجح- إلى الانغماس في مُمارَسات اجتماعيّة تعكسُ قَبولها الاختياريّ بعبوديّة تقنيّات العولمة الرَّقميَّة، فيجدُ النّاس أنفسَهُم تحت رحمة أساليب وجود تقبَّلوها طوعاً، فاستعبدتهُم على مدار الوقت، وبات حضورُهُم (الاجتماعيّ) رهناً بحُضورهِم (التِّقنيّ)، ولا سيما بما يخصُّ التَّعامُل مع عالَم الفيسبوك الافتراضيّ كما تُظهِرُ الرواية، وهيَ أمور تستدعي استنطاق أسئلة الكينونة بينَ الزائف والأصيل، كما هو الحال عند كل اختراع عصري جديد.