شاهدت قبل أيام شريطاً مصوراً يجمع النجمين السوريين جمال سليمان وقيس الشيخ نجيب مع مذيعة مصرية شهيرة في أحد المهرجانات العربية حديثة العهد، كان الممثلان السوريان يتبادلان الحديث معاً ويجيبان عن أسئلة المذيعة المصرية بشكل عفوي وتلقائي.
غير أن جمهور "فيس بوك" السوري الذي ترك تعليقات متتالية ومتشابهة أسفل الشريط المصوّر لم يكن معجباً بالحديث الدائر ووجد أكثره فرصة مناسبة ليعاود شتم النجم جمال سليمان مستعيناً هذه المرة باستخدام سليمان للهجة المصرية في الحديث؛ ما يعني، بالنسبة للجمهور الفيسبوكي الكريم، تنكراً من قبل النجم لأصله السوري وتخلياً عن سوريا المنكوبة؛ وتظهر حيثيات المعلقين أن أغلبهم ينتمي إلى شريحة المؤيدين للنظام ممن ما زالوا في داخل سوريا، مع وجود بعض التعليقات لمن هم في الخارج ممن يضعون على صفحاتهم ما يؤكّد معارضتهم للنظام.
ومع ذلك من بين عشرات التعليقات لم أقرأ سوى تعليقين لا يتضمنان شتيمة لـ جمال سليمان لاستخدامه اللهجة المصرية في حديثه، وهو ما أثار الحفيظة الوطنية للسوريين الذين وجدوا في لهجة سليمان المصرية إكمالاً لتاريخه في (خيانة سوريا)! وأنا أقرأ التعليقات إياها خطرت لي عدة ملاحظات، أو لنقل عدة استفسارات لم يفلح كل ما حدث في السنوات السورية الماضية في الإجابة عنها.
نسبة كبيرة من السوريين ما زالت ترى وتؤمن أن كل من يعارض النظام وينتقده ويتحدث أو ينتقد فساده وإجرامه هو عميل وخائن للوطن، في خلط قبيح وفج وركيك بين الوطن والنظام، سواء أكان هذا الخلط عن سابق قصد ودراية، أم كان عن جهل وغباء وعماء، عادة ما يُصاب به أصحاب العقائد والأيديولوجيات العصبوية القومية أو الحزبية أو الدينية أو الطائفية.
وهذه مسألة تنجح أنظمة الاستبداد عادة في تكريسها في الوعي الجمعي الشعبي، وفي الحالة السورية هي مسألة قديمة يعيها أبناء جيلي جيداً منذ سبعينيات وثمانينات القرن الماضي حين كان المجتمع السوري ينبذ المعتقلين السياسيين ويعاملهم كمجرمين وعملاء وخونة، ربما كان الخوف من مصير مشابه هو ما يعزز هذا السلوك الجمعي النابذ والرافض لاحتضان المعارض السياسي (شيوعيين وإسلاميين)، لكن كان ينبغي لما حدث مع بداية الربيع العربي أن يكون قوي التأثير على عموم السوريين، خصوصاً وأن ساحات المدن السورية امتلأت بصيحات الشباب والشابات الغاضبة المطالبة بالتغيير؛ لكن جذور الخوف كانت قد حفرت مكاناً ثابتاً في تربة المجتمع السوري، الخوف من عقاب النظام، والخوف من التغيير، والخوف من خسارة ما اعتقده البعض مكتسبات ستزول بزوال النظام.
الخوف المركب قسّم المجتمع السوري تقسيماً حاداً كان كفيلاً بقصم ظهر الثورة والمساعدة في القضاء عليها، جنباً إلى جنب النظام والمجتمع الدولي والثورة المضادة من التنظيمات الجهادية..
هذا الخوف المركب قسّم المجتمع السوري تقسيماً حاداً كان كفيلاً بقصم ظهر الثورة والمساعدة في القضاء عليها، جنباً إلى جنب النظام والمجتمع الدولي والثورة المضادة من التنظيمات الجهادية. لكن الغريب أنّ نتائج ما حدث خلال أكثر من عشر سنوات من دمار وخراب وموت وتشرد وفقر وأهوال لا تخطر في البال لم تستطع أن تجعل السوريين يتأملون مصيرهم البائس ويعيدون ترتيب أوراقهم ويضعون نقاط المسؤولية فوق حروف أصحابها.
والغريب أكثر أن الجيل الذي كبر خلال العقد الماضي لم يخرج إطلاقاً من معاطف آبائه، بل يبدو كما لو أنه وريثاً شرعياً لكل المورثات السورية السابقة ومحملاً بطبقات الوعي الجمعي التي حملتها الأجيال السابقة ذاتها. والحال أن جيلا نشأ مع الحرب لا بد وأن يكون مشوهاً، لكن يخبرنا التاريخ أن أجيال الحروب في العالم كانت قد تمردت على آبائها رغم اضطراباتها النفسية وقاومت نتائج الحروب والاستبداد والتسلط، ما بال سوريا إذا لا تنتج غير العطب؟.
في الشريط المصور إياه يتساءل المعلّقون عن السبب وراء استخدام جمال سليمان للهجة المصرية بينما لا يوجد ممثل مصري يستخدم اللهجة السورية! وفي الحقيقة هذا التساؤل إما بالغ السذاجة وأما بالغ الغباء، فجمال سليمان يعيش في مصر منذ أكثر من عشر سنوات محاطاً في تعاملاته كلها، بما فيها عمله، باللهجة المصرية التي يفترض أنه بات متقناً لها، هذا الاحتكاك المباشر واليومي مع لهجة أخرى سيجعل الوعي يستحضر المفردات الأقرب وسيعطي الدماغ أوامره للنطق بها، ستعود اللهجة الأولى لتكون مسيطرة حين يختفي الوعي تحت طبقات اللاوعي نتيجة الغضب مثلاً أو مع من تعودنا معهم على النطق بلهجتنا الأولى؛ وهذا أمر بديهي خصوصاً وأن المذيعة في الشريط تتحدث معه بلهجة أهل مصر لا أهل الشام، لكن هل ثمة قيمة للهجة التي يتحدث بها أحد؟ قد يكون ذلك لافتاً لو أنّ سوريّاً يعيش في سوريا يحاول أن يتحدث بلهجة بلد آخر، أما في حالة من يعيشون في بلدان أخرى فهذا موضوع يجب ألا يكون مكان نقاش أصلاً، لولا أننا نحن السوريين بتنا نختزن الكثير من الغضب والعنف في داخلنا نتوجه به نحو المكان والأشخاص الخطأ.
وفي منطق آخر يمكننا طرح السؤال التالي: ما الذي قدمته اللهجة السورية كي ينطق بها أي أحد غير السوري؟ مصر قدمت بلهجتها الكثير جداً منذ أكثر من قرن ونصف: شعر ورواية وأغنية وسينما ومسرح ودراما تلفزيونية، مصر كانت دائماً هي المركز الإبداعي والعلمي بين العرب، مثّلت في مرحلة ما بالنسبة للعرب ما تمثله أميركا من مركزية للعالم، ليس في السياسة فقط بل في الإبداع والتقدم التقني، وهو ما يجعل من اللغة الإنكليزية باللكنة الأميركية هي لغة عالمية، الأمر ذاته بما يخص اللهجة المصرية والعرب، وهو ثقل لا تحمله أية لهجة عربية أخرى على الإطلاق، على الأقل حتى الآن.
معلوم أن الشعوب تزداد عنصرية كلما تراجع حضورها وتأثيرها في الحاضر والمستقبل، كلما ازدادت انهزاماتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، كلما قل نتاجها الفكري والإبداعي، يحدث هذا مع كل الشعوب العربية تقريباً، حيث يعيش العرب عموماً في أسوأ أزمانهم، ومع ذلك تزداد طفرات الشوفينية ظهوراً لديهم ومثلها موجات العنصرية التي تمارس استعلاء عنصرياً لا يمكن تفسير أسبابه سوى البحث عن هوية حين ضاعت الهوية الوطنية في ركام الحرب أو الفقر أو الدمار، ظهرت واضحة عند المصريين موخراً وظهرت عند العراقيين وعند التوانسة وطبعاً عند السوريين الذين يتعالون على باقي العرب بحديث ملفّق عن الانتماء إلى الحضارة الفينيقية، وكأنه لا حضارات أقدم وأعرق وأكثر تنوعاً وعظمة كحضارة المصريين القدماء مثلاً، والتي لا تضاهيها أية حضارة أخرى.
العرب منذ مدة تحوّلوا إلى مجموعات من الشوفينين والعنصريين والمستندين إلى فراغ اتسعت هوته بعد فشل الربيع العربي وفشل حلم التغيير وفشل الحكومات التي استلمت السلطة وفشل المجتمعات في لملمة شتاتها وعجز المثقفين والنخب الفكرية والسياسية عن اقتراح حلول تنقذها من التفتت والانهيار..
وفي العموم فإن العرب منذ مدة تحوّلوا إلى مجموعات من الشوفينين والعنصريين والمستندين إلى فراغ اتسعت هوته بعد فشل الربيع العربي وفشل حلم التغيير وفشل الحكومات التي استلمت السلطة وفشل المجتمعات في لملمة شتاتها وعجز المثقفين والنخب الفكرية والسياسية عن اقتراح حلول تنقذها من التفتت والانهيار. هكذا يكون الإعلاء من شأن اللهجة المحلية ليس سوى نتاج للهزيمة الكبرى، ليست هزيمة الربيع العربي السياسية فقط، بل هزيمة الأحلام النكراء التي أعادت الشعوب إلى نقطة الصفر مع فقدان لوجستيات مرحلة نقطة الصفر.
سوريا تحتاج مستقبلاً (الآن لا يوجد أي أمل بوجود النظام)، تحتاج إلى علاج نفسي جماعي ليتخلص شعبها من الغضب والعنف المختزن في داخله ضد الآخر، وتحتاج إلى البحث عن هوية جديدة حداثية عابرة للعقائد الحزبية والدينية ومتخففة من ثقل الشوفينية عليها. تحتاج من ينقذها من العطب الذي أصابها، وهو ما يحتاج أولاً إعادة دراسة المجتمع واقتراح عقد اجتماعي ضامن وشامل. هكذا فقط يمكن حماية ما تبقى ومن أوهام الحضارة والشوفينية القاتلة.