لم تكن فترة انقلاب "حسني الزعيم" في سوريا أواخر عام 1949، وما بعدها إلا تمهيدًا لتحولات حادة في الحياة السياسية السورية، إذ فتح "الزعيم" الباب على مصراعيه أمام شهوة العسكر للاستحواذ على السلطة بأي طريقة كانت، ومهما كان الثمن ولو كلف ذلك مئات الجثث في شوارع دمشق.
أمام تلك التقلبات وسحق حسني الزعيم لحرية الرأي، لم يكن أحد يتوقع في ذلك العهد، أن تتصدر جريدة ساخرة المشهد الصحفي السوري، وأن ترفع سقف الانتقادات ضد سلطة الزعيم، متجاوزة الرقابة الأمنية والاحتكار الحكومي للإعلام، إنها "جريدة الكلب" التي انطلقت من مقاهي دمشق، بقلم الأديب "صدقي إسماعيل" (مواليد إسكندرونة 1924) ودون أي ترخيص متجاهلاً القوانين والأنظمة.
ولعل أبرز ميزاتها، أنها كانت تكتب بخط يد إسماعيل على نسخة واحدة أو نسختين، بنقدٍ لاذعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ وأدبيٍّ وتوزّع بين الأصدقاء، ولا أحد يعرف أين تستقر.
الأكثر غرابة أن إسماعيل نظم كل موضوعاتها شعرًا ساخرًا عميقًا لاذعًا بوزن وقافية، فأعطت للشعر نكهة صحفية، وابتكرت للصحافة أسلوبًا فريدًا، كما شدت الانتباه واستمالت القلوب، بسبب رصدها كل الأحداث والأخبار بأسلوب فكاهي مبسط، كل ذاك كان أسبابًا لتجوب النسخة المخطوطة المحافظات السورية.
يقول "إسماعيل" في حديث أجراه معه الصحفي "زهير مارديني" لمجلة "الأسبوع العربي" البيروتية عام 1963:
"لقد أصدرت الجريدة بعد أن رأيت أول ديكتاتورية تقام على رؤوسنا.. لقد شعرت بالاشمئزاز من التصرفات المجنونة والمزيج من القسوة المتناهية، كان لا بد من عمل شيء لكشف هذه المتناقضات، ورد الشباب الى حقيقتهم..".
وقد ضم العدد الأول من الكلب: (المقال الافتتاحي، المانشيت، المقال الرئيسي، الطقس، كلمة العدد، في السياسة الدولية، في السياسة الداخلية، يوميات رئيس التحرير، صورة العدد، الإعلانات).
فن الإعلان في "الكلب"
لم تبتعد "الكلب" في تناولها لأي إعلان تجاري عن نمطيتها الشعرية الساخرة، فهي ورقة من صفحات أربع من "الخبر والتعليق السياسي والمقالات والإعلان" الذي حاز اهتمامًا كبيرًا في مجتمع الاستهلاك المعاصر، إذ كان من الصعب الفرار من النباح الإعلامي، الذي أصبح أمام المواطن السوري وفي كل اتجاه خلال تلك الحقبة، فلا يُرى عمود أو شجرة أو جدار إلا وقد تحول للوحة إعلانات، فمثلًا إذا أرادت "الكلب" الإعلان عن شفرة حلاقة، جاءت بالإعلان بطريقة عبقرية:
"اشتروا شفرة الحلاقة "ناسيت"
فقد طالت اللحى في البلاد ِ
أعلنوا عندنا، فالكلب صوتٌ
يتحدى وزارة الاقتصاد ِ"
أو إذا أرادت الإعلان عن "تنباك نرجيلة" نصحت قرّاءها:
"لا تشربوا التنباك إلا إذا
كان لكم في البيت أرجيلة
أعلنوا في صحيفة الكلب فالكلب
حريصٌ على جميع البضائع ِ".
ومن طريف الدعايات أيضاً، أن أعداد الكلب ممتلئة بإعلانات السينما، بل واهتم بها "الكلب" كثيرًا لدرجة أن بعض الإعلانات كان تعطي فكرة عن موضوع الفيلم مسبقاً:
"في سينما بلقيس فيلم به
أرجوحة حمراء "من مخملِ"
تركب فيها غادةٌ حلوةٌ
وقال صدقي: ليتها اليوم لي
قصتها حبٌ عظيمٌ به
عيبٌ لأن الحب لم يكملِ"
والأندر عندما يكون هناك مساحات فارغة في صفحة الجريدة، فكانت تُملأ أيضًا بطريقة جذابة هزلية استعراضية:
"هذا المكان لإعلانٍ نخصّصه
لمن سيفلس حتمًا دون إعلانِ
إنْ في التجارة أو في السينما
ولقد تكون شغلته في غير مكان"
سلكت "الكلب" منهجًا متهكمًا حتى في طريقة إغراء زبائنها بالإعلان فيها، فلم تكتفِ بالتلويح لهم بالإفلاس إذا هم أهملوا فن الإعلان، ولكنها تلوّح لهم بإغراءات من كل نوع إذا هم أعلنوا فيها فتقول لهم:
"شخصٌ هنا أعلن عن نفسه
فصار في مدة شهر وزيرْ
وأنت قلّده وكن مثله
تجد على بابك حالًا خفيرْ".
الأخبار السياسية والنشرة الجوية
في خضم الأحداث السياسية وتداعياتها على مستوى العالم، قدّمت الكلب الأخبار والأحداث بسلاسة وتلميح شعري أراده إسماعيل للقلائل فقط وللنخبة ممن يفهمون النكتة ويقدرون قيمتها الفنية، فمثلًا نقلت خبر إرسال الولايات المتحدة لشحنة أسلحة إلى ألمانيا الغربية عام 1961، بشكل متهكم فريد، فكتبت:
"كينيدي" يقول: بأن في
برلين منطقة الحظرْ
ولذلك أرسل شحنتين
من القنابل وانتظرْ
وفي العام 1959 كان قد شهد محاولة اغتيال الزعيم العراقي "عبدالكريم قاسم"، إلا أنه نجا من المحاولة بأعجوبة، ثم ألقى خطابًا شعبيًا فتناولت الكلب الخبر لقرائها:
"يوم المحبة والسلامة
ما مثله يوم القيامة
فيه احتفلنا بالنجاة
وهذه يدنا علامة".
حتى النشرة الجوية والطقس، فقد قدّمها إسماعيل للقراء بأسلوب طريف:
"سلام على الطقس إذ يمطر
بنيسان الورد إذ يزهر
على عائدات السنون، تقول:
بأن الربيع أتاه فابشروا".
أطلق إسماعيل اسم "الكلب" على جريدته تيمنًا بالمدرسة الفلسفية الإغريقية الكلبية التي يسميها بعض كتابنا اليوم السينيكية "السينيزم" المشتقة من كلمة كونوس (kunos) وتعني الكلب بالمعنى الفلسفي القديم، _وكما هو معروف_ الذي يتحدى المبادئ السائدة ويعارض الأعراف الاجتماعية، وعندما سئل مرة عن تسمية الجريدة بهذا الاسم، علّل أيضاً التسمية متهكماً، بأن "الكلب هو الكائن الوحيد الذي يحق له النباح دون أن يلزمه أحد بشيء".
اعتمدت "الكلب" على جمهرة من رجال الأدب والسياسات والإعلام لمدّ الصحيفة بالمواد المقروءة، كمنصور رحباني، وغازي أبو عقل وعبد السلام العجيلي، وسليمان العيسى الذي حاول تقليد نمطيتها في حلب فأسس "ابن الكلب" ألا أنها لم تشع كالأصل، وكان شعارها على الصفحة الأولى:
"خدمة للقارئ العربي
صدر "ابن الكلب" في حلب
ستراه في سياسته
كأبيه عالي الأدب".
ورغم استقطاب "الكلب" لأعلام الفكاهة السوريين إلا أنها عانت من ضعف الانتشار، والاقتصار على طبقة مثقفة قارئة، تُوزّع على الأصدقاء الذين يقومون بدورهم بنسخها وتداولها، إضافة إلى عدم انتظام الإصدار والنشر، وبالتالي فوات مناسبة نقدها لكثير من المواضيع، إلا أنها ورغم تلك الظروف والتناقضات، فقد كانت تغري النخبة وتجذبهم إلى قراءتها، لا، بل فرضت الكلب نفسها في الصحافة السورية، وشاع صيتها في البلاد العربية، حيث نشرت "الهلال القاهرية" يونيو/حزيران 1977، مقالة بدون توقيع، عنوانها: "الكلب أطرف مجلة فكاهية عربية"
استعان كاتب المقالة بالعدد الوحيد المطبوع منها، فمن المعروف أن الكلب لم تطبع إلا مرة واحدة طوال سنوات صدورها العشرين، ولكلِّ عددٍ شعاره أو استهلاله الشعري المضحك، فمثلاً كان شعار الإصدار الأول:
"إن خير القرّاء من لايضوج
ذنب الكلب دائمًا معووج".
ولا ينكر أحد أن الكلب تفردت بين الصحف والمجلات الفكاهية ببساطتها التي بدأت بالتحرير من مقهى "الهافانا" تارة، وتارة "الجسر الأبيض"، وتارة "الروضة"، إضافة إلى تولي صاحبها موضوعاتها من الألف إلى الياء وهو جالس في المقهى، ثم توزيعها على أصدقائه دون اشتراكات.
استطاعت الكلب أن تحيا ربع قرن، رغم صدورها في زمن تقلبات حادة بدأت بأول انقلاب وانتهت بنكسة حزيران، ثم ماتت يتيمة، لم يتناولها الإعلام العربي رغم ماحوته من كنوز شعرية هزلية نقدية، ودواوين لاذعة، وقد ضاع كثير من أعدادها باستثناء 15 عددًا حفظته زوجة إسماعيل، إضافة إلى جهود رفيق دربه سليمان العيسى الذي استطاع أيضًا جمع وتحقيق 150 عدداً في مجلد كبير مطبوع عن مطابع الإدارة السياسية في دمشق، لتكون الكلب شاهدة على أهم الأحداث التي عصفت بسوريا في الخمسينيات والستينيات، وتأريخاً لحقبة كانت مفصلية في تاريخ سوريا.