عرف المشهد السوري، على الرغم من كارثية الأوضاع الإنسانية، التي عاشها السوريون، خلال السنوات الماضية، عرف نقاشات عديدة، حول المواطنة، خصوصاً من قبل منظمات المجتمع المدني الكثيرة، وبعض المراكز البحثية، وأقيمت ورش عمل، خصصت لنقاش مسائل جوهرية متعلقة بالمفهوم نفسه، ومنها بالطبع، مفهوم الدولة نفسه، باعتبار الدولة هي إطار المواطنة، والتي من دونها لا يمتلك الحديث عن المواطنة أي مغزى فكري أو واقعي.
تطور مفهوم المواطنة في سياق سلسلة مركبة من الصراعات التي عرفتها أوروبا، ومن أبرزها الثورة الفرنسية، وشعاراتها الثلاثة، الحرية، والإخاء، والمساواة، وقد استدعت الكثير من الأحداث، في القرنين التاسع عشر والعشرين، سجالاً فلسفياً وفكرياً وسياسياً، مجاله مفهوم المواطنة، ولا يمكن فصل هذا السياق عن عصر التنوير، والتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وما رافقها من أسئلة حول الإنسان من جهة ثانية، حيث أفضت حركة التنوير إلى وضع الإنسان/الفرد في مركز الاهتمام، أي بوصفه الكائن الذي تنطلق منه القيم وتعود إليه، بعيداً عن شرعيات ماورائية.
تباينت الرؤى في الفكر السياسي حول مفهوم المواطنة، إذ لم يكن من الممكن تحييد مسألة المواطنة عن مفهوم الدولة، وعن مفهوم النظام السياسي
وعلى الرغم من الوزن النوعي الجديد للمسائل الحقوقية المتصلة بالفرد، والتي أطلقها عصر التنوير، إلا أنه، وبسبب هذه المكانة الجديدة نفسها، فقد تباينت الرؤى في الفكر السياسي حول مفهوم المواطنة، إذ لم يكن من الممكن تحييد مسألة المواطنة عن مفهوم الدولة، وعن مفهوم النظام السياسي، وبالتالي عن الإطار التعاقدي للأفراد والجماعات، وهو الإطار المحدد للحقوق، وللمسافة بين الدولة والمجتمع، وبطبيعة الحال مكانة الفرد في المنظومة التعاقدية للدولة، ومجالها الأساس الدستور.
احتاجت أوروبا إلى ما يقارب ثلاثة قرون من أجل بلورة صيغ دستورية تقر بالمواطنة المتساوية بين الأفراد، وإقامة نظم سياسية تفصل بين سلطاتها الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ما يسمح فعلياً بصون حقوق الأفراد، ومنع التعدي عليها، وتمكين الأفراد من أجل الحصول على حقوقهم، عبر القوانين، ومنع حدوث أي تمييز، ومع ذلك، فإن السجال حول المواطنة، يزال حاراً، في النقاش السياسي الأوروبي، نظراً لنمو حاجات واقعية محددة، أو لوجود مستجدات تفرضها الوقائع.
وربما كان المثال الألماني، في القرن العشرين، من أبرز الأمثلة، حول العلاقة بين المواطنة والدولة، وهيمنة النظام السياسي الذي فرضه هتلر بين عامي 1933 و1945، فقد انتهك النظام السياسي حريات وحقوق الأفراد، وقام بممارسات جسيمة بحق المواطنين الألمان، وهو ما فرض لاحقاً حالة من السجال الفكري والتشريعي، من أجل صون حقوق المواطنة، وقد قام المشرّع الألماني بالمفاضلة بين الدولة والمواطن، فاختار المواطنة كمدخل للدولة، وأقرّ في مادته الأولى من الدستور (تمّ إقراره في عام 1949) بصون الكرامة الإنسانية، وحدد وظيفة الدولة بصونها، وعدم المساس بها، تحت أي سبب أو ظرف.
وفي حالة بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال في سوريا، لا يمكن فصل سياق تطور الدولة نفسها، أو جدل الدولة والمواطنة، بعيداً عن سياق التطور التاريخي لمجمل منطقة الشرق الأوسط
إن نقاش السياق التاريخي لبناء الدول مسألة لا غنى عنها، من أجل تقصي العلاقة بين الدولة والمواطنة، وفي حالة بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال في سوريا، لا يمكن فصل سياق تطور الدولة نفسها، أو جدل الدولة والمواطنة، بعيداً عن سياق التطور التاريخي لمجمل منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من وجود تباينات أساسية بين دولة وأخرى، لكن هذا السياق العام لمنطقة الشرق الأوسط حدّد ملامح الدول الوطنية، خصوصاً في إطار الدور الوظيفي لهذه الدول، في سياق الاستقطاب الذي عرفه النظام الدولي، في مرحلة الحرب الباردة.
إن تقصي الواقع التاريخي لسياق السلطات السياسية التي حكمت سوريا، يظهر هشاشة فكرة المواطنة في التعبيرات السياسية المتصارعة على الحكم، فقد أولت الأحزاب السياسية الأهداف الأيديولوجية الاهتمام الرئيس، وقد أدى إمساك وتفرّد حزب البعث للسلطة، خصوصاً بعد وصول حافظ الأسد إلى الحكم، إلى تحييد الدولة والمواطن معاً، وبالتالي إقصاء أية إمكانية لنشوء جدل حقيقي حول العلاقة بين الدولة والمواطنة، وبالتالي فإن نقاش المنظومة الحقوقية للمواطن/ الفرد غاب، بشكل شبه نهائي، عن الفضاء العام في سورية.
يطرح المثال السوري إشكالية تشوهات الدولة الوطنية، حيث يفضي تغوّل السلطة السياسية على جميع مفاصل الحياة العامة، إلى تحويل الدولة ومؤسساتها إلى مجرد هياكل تابعة، وخاضعة لإرادة السلطة السياسية، كما يصبح المواطن مادة للسلطة السياسية، وليس ذاتاً مصانة، عبر الدستور وآلياته التنفيذية، ما سمح للنظام السياسي بارتكاب انتهاكات واسعة بحق الجماعات والأفراد، وقد تجلى هذا السلوك الممنهج بأبشع صوره، بعد الانتفاضة السورية، مع انكشاف واضح لاستخدام السلطة السياسية لمؤسسات الدولة في قمع عملية التغيير السياسي.
يطرح المثال السوري إشكالية تشوهات الدولة الوطنية، حيث يفضي تغوّل السلطة السياسية على جميع مفاصل الحياة العامة، إلى تحويل الدولة ومؤسساتها إلى مجرد هياكل تابعة
وخلال السنوات السابقة، ونتيجة لتحول مسار التغيير السياسي، فإن مجمل القوى السياسية المعارضة، على الرغم من التباينات الأيديولوجية فيما بينها، ركزت بشكلٍ أساسي على قضية إسقاط النظام السياسي، بوصفها القضية/ المفتاح، لأي تغيير في الدولة والمجتمع، لكن خطابها العام، بالإضافة إلى ممارساتها السياسية، كشفت عن قصور كبير في رؤيتها لمفهومي الدولة والمواطنة، كلٍ على حدة، أو في الجدل القائم بينهما، وعلى هامش الحراك السياسي، بقيت النقاشات حول المفهومين غير ذات مغزى، أو فعالية حقيقية، وهو ما يكشف، بطبيعة الحال، عن مستوى وعي النخبة السياسية، في لحظة فارقة ومصيرية من تاريخ الدولة السورية، ومن تاريخ المواطن السوري.