تستقبل الممانعة اللبنانية الأخبار الواردة من السويداء بكثير من القلق والحذر الذي يرقى إلى مرتبة الرعب، وتعمل عبر بواباتها الإعلامية الأمنية على تشويهها والتخفيف من حجمها وتسفيه معانيها.
كل ما يجري في السويداء يبدو كارثيا بالنسبة لنظام الأسد وقرينه اللبناني الموالي لإيران، وذلك لأنها على غرار ثورة 17 تشرين 2019 اللبنانية تذهب في اتجاه راديكالي حاسم ونهائي عبر خطاب يحقّر البعث ويرفضه بالمطلق، ولا ينظر إليه كمرجعية يتجه إليها بالمطالبة، بل بوصفه مسؤولا عن كل الخراب، وتاليا فإنه ليس جهة أو طرفا بل العدو الواضح والنهائي.
وإذا كانت شعارات ثورة بيروت "كلن يعني كلن" قد حملت بعض بنية الخلل قياسا على الوضع اللبناني، وأغلقت الباب أمام استقطاب سياسي كان ممكنا ومنعت الفرز بين خصومها وحلفائها، فإن ما تنادي به ثورة السويداء قياسا على الوضع السوري يتجلى بوصفه صوابا مطلقا في السياسي والاجتماعي وكذلك في الأخلاقي، وذلك لأن البعث الذي صنع نظاما مغلقا ومطلقا يمثل الخلل الكلي.
ذلك اليقين السوري بعناوينه العريضة يتناغم مع ما يتراكم منذ فترة في المجال اللبناني عموما والشيعي خصوصا من استحالة التفاهم والعيش تحت ظلال حكم الممانعة
الهجوم على مقار البعث وتدميرها وطرد المسؤولين فيها في موازاة طرح العناوين الاجتماعية والاقتصادية وربطها باستحالة السياسة وبالإدانة الصارمة للأسد ونظامه، لم يكن مجرد فورة غضب بل نتيجة لتراكم وعي حاد أنتج نوعا من اليقين الذي يصعب التراجع عنه بغض النظر عن أي سياقات محتملة للأحداث.
ذلك اليقين السوري بعناوينه العريضة يتناغم مع ما يتراكم منذ فترة في المجال اللبناني عموما والشيعي خصوصا من استحالة التفاهم والعيش تحت ظلال حكم الممانعة. الاحتجاجات التي تنادي بشؤون مطلبية، والتي تنفجر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتعبر عن نفسها أحيانا في المجال العام بصعوبة ويتم المسارعة في قمعها بدرجة عالية من الحدة والعنف، تكشف عن أن ذلك التسفيه الراديكالي لمنطق البعث وسلطاته الذي أفرزه مشهد السويداء يصلح للتعبير عن الأحوال اللبنانية في مواجهة الممانعة.
الفصل بين الاجتماعي والمطلبي والسياسي كان سياقا مشتركا بين نظام الأسد والممانعة اللبنانية، فلطالما عمل حزب الله على الإيحاء بتناغمه وتفاهمه مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية واعتبارها جزءا من مشاريعه وأهدافه، وكان وجود بنية مفرغة من السلطة والمؤسسات هو الإطار الذي يتيح له التهرب من حمل المسؤولية المباشرة وردها إلى فساد حكومي وسياسي عام.
اللعبة التي يمارسها كانت تعنى بالمحافظة على قداسة زعيمه حسن نصر الله والسماح بالمس بمن هم دونه كبنية تفريغ تتيح للجماهير التنفيس عن غضبها من ناحية، وتمنح خطابه القائم على دفع السياسة إلى الذوبان في بنية التقديس التي يمنحها لزعيمة تماسكا وصلابة من ناحية أخرى.
يحاول الحزب وانطلاقا من مخاوف مشتركة مع الأسد إسقاط الخطاب نفسه على ثورة السويداء مدعيا عبر مقالات وخطابات ينشرها في مؤسساته الإعلامية الحربية أن مشهدية السويداء كانت تحمل زخما اجتماعيا ومطلبيا قد يستجلب التعاطف، ولكن كل ذلك سقط عندما باشرت بالنيل من بشار الأسد وقداسته المزعومة. هذا الأمر تسبّب، وفق وجهة النظر الممانعة، بتفكيك شرعيتها من الداخل، وذلك لأنه إذا كانت الساحة السورية تحمل اختلافات وتباينات حادة في المواقف والآراء والطموحات والهواجس والآمال، ولكن هناك بعد واحد يحظى بالإجماع العام وهو شخص بشار الأسد.
تلك الإحالة إلى شخص الأسد بوصفه عنوانا للقداسة والإجماع تكررت في ما يخص نصر الله وعنوان مواجهة الانفجار الاجتماعي والاقتصادي الذي ينظر إليه الناس في البلدين على أنه نتيجة مباشرة لتغييب السياسة أو جرها إلى النطق باسم الفساد، بينما يعتبره كل من الأسد ونصر الله نتيجة للحروب الكونية التي تشن ضدهم.
الدور المفترض للناس في هاتين المنظومتين يقتصر على الموت في سبيل قداسة الأسد ونصر الله، وتاليا فإن الحياة عمليا لا تكون سوى عملية استعداد لتحقق الموت وإنجازه بالشكل الذي يخدم صور القداسة الزائفة وميادينها التي تشتغل من خلالها.
ذلك النوع من الحياة يفترض شروطا تختلف عن مألوف العيش العادي والبشري العام. الاستعداد للموت لا يتطلب أمنا وصحة وغذاء واقتصادا وسياسة بل يشترط على العكس من ذلك غياب كل ما يرتبط بإدامة العيش واستمراره. لم يكن نصر الله يمزح حين عرض على اللبنانيين رؤيته الاقتصادية الزراعية التي تدعوهم إلى مواجهة الأزمات الحادة بزراعة "البلاكين"، وكذلك فإن نظام الأسد بإصراره القديم المتجدد على أن لا شيء يحدث في سوريا ينفي وجود الأزمات أساسا ويعتبر أن بقاءه واستمراره هو الدليل الحاسم على الازدهار والنمو.
خطر ثورة السويداء على الديكتاتوريتين الأسدية واللبنانية أنها قبل كل شيء أعادت ربط خطاب المطالبة بالحرية بالشأن الاجتماعي ووحدت بينهما مفككة كل مساعي تحويل الناس إلى مجرد كائنات بيولوجية
خطاب الإنكار سقط في البلدين واتجهت الأمور في لبنان إلى فراغ شبه كلي في مؤسسات الدولة ولعبة التحالفات التي صنعها الحزب انحلت إلى صراع ابتزاز. الجهاز المؤسساتي الحكومي الهش الذي كان يستعمله كواجهة للتغطية على ممارساته قد سقط وتعرى، وكذلك تبددت كل الخطابات التي يستعملها الأسد من حلف الأقليات إلى دعاوى الحماية وتحقيق الازدهار والأمن، وباتت صيغة الدولة الوهمية التي يقف على رأسها تشي بالفراغ الكامل على غرار المشهد اللبناني الذي صممه حليفه الإيراني اللدود حزب الله.
خطر ثورة السويداء على الديكتاتوريتين الأسدية واللبنانية أنها قبل كل شيء أعادت ربط خطاب المطالبة بالحرية بالشأن الاجتماعي ووحدت بينهما مفككة كل مساعي تحويل الناس إلى مجرد كائنات بيولوجية، وبالتعبير النفسي يمكن وصف ما يجري بأنه عودة إلى الإنساني المتمثل في فعل الحرية بوصفه رغبة تصف الإنساني وتمنحه المعنى والتماسك وتستعلي على ضرورة الحاجات المعيشية والبيولوجية التي تجعل الناس كائنات مستلبة لا تستطيع إنتاج وعي ولا صناعة مجال عام أو تكوين رأي.
ذلك الذهاب إلى الحدود القصوى الذي تطرحه علينا ثورة السويداء يعيد فكرة الحرية أملا ومفهوما وخطابا وهدفا إلى المجال العام بعد أن كان الأسد وحزب الله قد اعتقدا أنها قد دفنت إلى الأبد.