في قصة المثَل المشهور "شبَّ عمرٌو عن الطَّوق" أن عمراً كان فتىً قريباً للملك جَذِيمة الأبرش، وقد استَهوتْه الجنّ لملاحته زماناً ففُقد وهو صغير كما رُوي، فلما رجع كانت لحيته قد بدت وظهرت معالم رجولته، فجهّزته أمُّه لخاله الملك، وألبستْه طوقاً كان يلبسه وهو صغير. فلما رآه الملك شاباً طريراً بلحيةٍ والطوقُ في عنقه قال: "شبَّ عمرٌو عن الطَّوق"، ثم سار في الناس مثَلاً يُروى ويُضرب!
والناظر في ثورات الربيع العربي وتعامُل الحكّام معها؛ وأكثر الحكّام ممن تمرّس في قمع حركات نهضوية سابقاً، فهم – بالعموم – إن كانوا ذي خبرة ففي القمع والاضطهاد لأنهم أقاموا حكمهم المزعوم على رقاب المحكومين عقوداً بالحديد والنار، فاستحقوا شهادات خبرة في ألوان التعذيب والاستبداد؛ فلا يخفى عليه أن الشعوب اليوم أكثر وعياً من الحكّام؛ وليس هذا بشيءٍ، لأن الحكّام توقف بهم الزمن عند الذي اغتنموه، بل يودّون لو أن الزمان يقف فلا يتحرك عنهم؛ فيُقدَّر لهم الخُلد، وإن لم يتيسر فليكن الخُلد لأسمائهم ومُلكهم؛ فيورّثون الحكم وإن كان البلد يحمل يافطة (جمهورية) أو (جماهيرية)!!
وحيث إن الشعوب وعت حكّامها وخبراتها القمعية فقد أتت من أبواب لم يحسبوها؛ فالأسد الأب والابن عرفوا من تجربة الإخوان في الثمانينيات أنها (نخبوية) في العمل والتنظيم، فخرجت عليهم ثورة شعبية خرج فيها الفلّاح قبل المثقف، والعامل
في لبنان الـمُجاور خطف حزبٌ واحدٌ بسلاحه قرار البلد، وساقَه بأهله وموارده عند أعتاب الولي الفقيه الذي يَدين له
قبل المتعلّم؛ فأرادوا ضربها باعتقال قياداتها، فراحوا يعتقلون كل مَن يتصدَّر المظاهرات؛ فلم تتوقف، بل ازدادت. فضربوا بالنار، فانشقّ عنهم ضباط وأفراد؛ فحسبوهم قادة الحراك، فاعتقلوا واختطفوا وعذّبوا؛ فلم تتوقف الثورة، بل ازدادت، وما زالت كلما ضربوها في جهة خرجت عليهم في جهة أخرى، وما زال وزالت بين مدّ وجزر لسنوات دون توقّف!
وفي لبنان الـمُجاور خطف حزبٌ واحدٌ بسلاحه قرار البلد، وساقَه بأهله وموارده عند أعتاب الولي الفقيه الذي يَدين له، ولأنه ملزَم باتفاقية أنهت حرباً أهلية أكلت من دماء اللبنانيين لعقود، ولأنه لن يعدم مِن الطوائف الأخرى مَن يحكم باسمه التزمَ تقسيمات الطائف، وصدّر لرئاسة الجمهورية ولرئاسة الوزراء مَن يتحدثون باسمه؛ مع أنهم كانوا قُبيل ذلك بقليل أعداء يسبّون بعضهم في السرّ والعلن!
والحزب العظيم يحسب الناس في غفلة، أو أن الخوف من سلاحه وعصائبه يقتلع الألسنة عن الحديث، ولأن من نهج الحكم الطائفي أن كل متزعّم يحكم طائفته، ويمنّ عليها بما يجلس فيه من كرسيّ قُسم للطائفة؛ فهو يحكمها به وتَدين له بالولاء والطاعة!
فتفاجأ قادة الطوائف كلها أن الناس خرجت دون بطاقات طائفية، واصطفت بجانب بعضها البعض بعيداً عن المحاصصة الطائفية التي مشى عليها السياسيون لعقود، وساقوا الناس بعصا الطائف نحو ما يريده السيد المعمَّم وقد غلبهم على أمرهم!
فأطلّ عليهم رئيس الحكومة يهدّدهم باستقالته إن لم يتراجعوا على عادته؛ وكأنه يمنّ عليهم أن رئيس حكومة! فسخروا منه ومن خططه العظيمة للإصلاح وقد ادّعى أنه يريدها منذ مدة؛ لكنه يجد معارضة شديدة للإصلاح! ثم خرج رئيس الدولة بعظمته لكن دون القدرة على الكلام المباشر؛ فأعاد ما عزفه دولة رئيس الحكومة، ووعدَ بإصلاحات يريدها كذلك منذ مدّة ولا يجد عوناً له عليها؛ مع أن اسمه "عون"! فاستمرّ الشارع يعزف لحن الحرية ويطالب بمحاربة الفساد. ولما زاد إزعاج الشارع وارتفعت الأصوات خرج عليهم الحاكم بأمر الولي الفقيه، فتكلم ببعض جمل هادئة مصطنعة، عجز تطبُّعه عن إخفاء طبعه؛ فراح يصرخ ويهدّد ورايته الطائفية من ورائه. لكن الشارع الثائر اعتذر من سماحته، ورمَى بكلامه مع الأكوام التي تخنق بيروت الجميلة منذ سنوات؛ فلم يصبر على الغياب، وخاف أن ينفرط عقد "العهد الجميل" الذي رسمه وأحكم فيه الأدوار؛ فأكرمَنا سريعاً بإطلالة وراء إطلالة، لكنّه تصنّع فجعل راية لبنان لأول مرة من ورائه؛ فلم يستطع أن يضحك على الشارع الثائر. فخرج دولة رئيس الحكومة يلوّح باستقالته، وأطلق السيد عصاباته على المتظاهرين يضربون ويهدّدون ......... ولكن قدَر الثورة أنها شبَّت عن التهديد والوعيد؛ ولن يرجع الناس إلا بما خرجوا من أجله "محاربة الفساد". ولأن الحكّام أخوان لعلّات كما يقال، درسوا في المدرسة ذاتها؛ خرج رئيس الدولة (عون) فرشقَ اللبنانيين بكلمات حفظَها من بشار الأسد في سورية ومن القذافي قبله في ليبيا، فحكى عن المؤامرة وسفّه المتظاهرين؛ بل دعاهم للهجرة إن لم يعجبهم "العهد" وقيادته، ويبدو أن الكبر أسرع فيه فاضطرب كلامه وخرج عن اللباقة والسياسة!
وفي العراق الجريح رسمت دول عدة خريطته الجديدة بإتقان، لتقطع الطريق على أية حركات نهضوية، فلا يجد الشارع المظلوم ريح الحرية فيبتسم الربيع العربي فيه، وأقاموا في الحكم والأمن والجيش مَن يحرس تلك المنظومة. لكن الريح إذا هبّت فلا مانع لها، والشعب إذا أراد الحياة يوماً فلن تقف في وجهه دبابة أو تخيفه طائرة!
فانساب الناس في شوارع بغداد، وخرّبوا المعادلة الطائفية التي رُسمت لتستقر عليها البلد، وتمضي حيث يشتهي الحكّام وأربابهم، فخرج الناس ينادون بمحاربة الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة، وجعل الناس من أفقر الخَلق في بلد ينضح بالخيرات؛ فيشقَى الناس بنعيم زمرة طائفية تأكل ثرواته، أو تدفعها للحاكمين بأمره خارج الحدود، فيرمي لهم ما يفضل عنه؛ بل تفنّنوا في التظاهر والاحتراز
قدَر الشعوب العربية الثائرة أن تقلب على الأنظمة مخططاتهم لاستمرار الاستبداد، ليعرفوا أن حبل الكذب على الشعوب قصير
من عصائب الأمن والمرتزقة، فاعتلَوا مبنى المطعم التركي ليقطعوا الطريق على القنّاصين الذين حصدوا في جوارهم العربي آلاف السوريين من الأبراج المشابهة، وهبّوا متعاونين متكاتفين يهتفون ضد الفساد وهم يرسمون على جدران الطريق والنفق صورة العراق الجميل الذي خرجوا يطالبون به!
هذا هو قدَر الشعوب العربية الثائرة أن تقلب على الأنظمة مخططاتهم لاستمرار الاستبداد، ليعرفوا أن حبل الكذب على الشعوب قصير، وأن نِير الاستبداد لابد أن ينكسر مهما اشتدّ وطال سكون المظلومين.
فليفهم المستبدّون ممن غرّهم بعدُ هدوء الناس تحت سطوتهم أن قول الشابّي يوماً:
فلابد لليل أن ينجلي ............... ولابد للقيد أن ينكسر
واقع لا محالة؛ فثورات الربيع العربي شبّت عن الطَّوق! فلن ينفعهم ما زيّنوا به أنفسهم ولبّسوا على الناس من أمر دِينهم أو دنياهم؛ فالثورة ستأكل عروش ظلمهم، لتشرق الحرية في أرجاء العالم العربي مهما طال الليل وقست القيود.
وبالعودة لقصة المثَل الأول "شبّ عمرو عن الطوق"؛ فقد هوَى خاله جذيمة لغروره وتجاهله كلام الناصحين في قبضة ملكة زنوبيا، فقتلته شرّ قِتلة؛ فثأرَ له عمرو "أبو الطوق" وأعاد ملكه في الحيرة!