icon
التغطية الحية

ثنايا وانعطافات | ذاكرة

2023.12.07 | 00:30 دمشق

لوحة
(لوحة: محمد البحيري)
+A
حجم الخط
-A

نشأتُ في بيئة يصِحُّ وصفها بالريفية إلى درجة كبيرة، وبالبدوية وإن بدرجة أقلّ.

كان يستهويني منذ طفولتي التقاط أوجه الشبه والمقارنات، وكذلك المفارقات بين البيئتين على الصعيد الاجتماعي والثقافي، كما على الصعيد البشري والحيواني والتقاطعات والتفارقات بينهما، والتأثيرات والتأثّرات والظروف والناس والوقائع والمجهولات. لذلك حين أسمع أو أقرأ كلاماً حقيقياً أو مجازياً عما يدعى حس القطيع أو غريزة القطيع أو ردّ فعل القطيع مثلاً، أجدني أفهم الأمر على نحو موغل في واقعيته وإسقاطاته وحتى حبكات حواشيه، غير أنني كنت أميل إلى اعتبار القطيع، وبالتالي القطيعية، إيجاباً كلياً في عالمَي الإنسان والحيوان على حد سواء.

وقد صكَّ "التأدلج" الديني والقومي مداركي، وزمزمَ أفكاري على أن ذوبان الفرد في الأسرة يمثِّل ذروة قيمية عليا، وكذلك ذوبان الأسرة في العائلة، والعائلة في العشيرة، والعشيرة في الفخذ ثم البطن ثم القبيلة ثم الشعب.

***

بعد ثلاثة أو أربعة عقود ورَّطتني الحكمة والتجارب والخبرات بقلبِ كثير من الأمور والقناعات والمفاهيم رأساً على عقب، أو الازدلاف بها إلى هذا الجانب أو ذاك، فبدأتُ أجاهد في الخروج من القطيعية البشرية المنسوخة عن القطيعية الحيوانية أو المنبثقة منها أو المتأثّرة بها.

في البداية كان لا بد من القطع ما بين البشري والحيواني، ثم ما بين الخرافي والأسطوري والواقعي، ثم ما بين الديني والدنيوي والقومي والإنساني وهلمَّ جرّاً جرّاً.

لم يعد ممكناً لي أن أرى الخطأ والصواب أو الخير والشر أو النعمة والنقمة تبعاً لمن تصدر عنهم، بل تبعاً لذاتها وبذاتها أياً يكن صاحبها. فالطاغية هو الطاغية بغض النظر عما إذا كان من أبناء جلدتنا أم من أبناء جلادينا

بدأت معايراتي ومعاييري وروائزي تتقارب وتتناغم وتتوحَّد وفق منطق أرسطو بدايةً، ولا سيما في تجلياته وتطبيقاته اللغوية والقواعدية، ومع الزمن وتنوّع مصادر الثقافة، أخذ يتسلل أو ينسرب المنطق الانتقائي، فالتاريخي، فالماديّ الجدليّ، فالمتكامل والمفتوح على كل ما أنجزه التاريخ البشري من أنواع المنطق والعلوم والحدس والتأويل والاحتمال، وحتى اكتناهات التصوّف والعبث والتمرد وشقائق المتناقضات واشتقاقاتها وتشققاتها.

لقد صحوت على ركام مما يسمى حِكَماً وأمثالاً تنضح بؤساً وجهلاً وذلاً.

دخلت الكهرباء إلى قريتنا، فتراجعت ثم اندثرت حكايات الناس وقصصهم مع الجنّ والأشباح والعفاريت.  

تنوعت وتعدَّدت مصادر اكتساب العلم والوعي والمعرفة، فانحسرت المجاهيل والغوامض، واغتنت محاكمات الأمور، وتعددت قراءات الواقع والوقائع.

على هذا النحو تدرَّجَتْ سيرة الخروج من الغيبوبة، ثم من العتمة، ثم من الظل والزوايا.

***

لم يعد ممكناً لي أن أرى الخطأ والصواب أو الخير والشر أو النعمة والنقمة تبعاً لمن تصدر عنهم، بل تبعاً لذاتها وبذاتها أياً يكن صاحبها. فالطاغية هو الطاغية بغض النظر عما إذا كان من أبناء جلدتنا أم من أبناء جلادينا، والاحتلال هو الاحتلال بغض النظر عما إذا كان أجنبياً أم محلياً. أعني صار الخطأ بالنسبة لي خطأ بغض النظر عن موقفي من مصدره. لهذا كنت أشفق على بؤس عقل وحال من يرى مثلاً أن الديكتاتور الفلاني مجرم في حين يرى أن الديكتاتور الفلاني عظيم وملهَم، أو أن الدين الفلاني هو الحقيقي وكل ما عداه زائف، أو أن اللغة الفلانية هي الأكمل والأرقى والأقدم والأقدس، وأن الأمة الفلانية خير الأمم، وأن الشعب الفلاني هو الذي اختاره الله، وأن اللبن أسود لو شاء المعلم أو الزعيم أو شيخ القبيلة أو الإمام أو الفقيه أو المُنجِّم والعرَّاف وضاربات الوَدَع. وصارت حقيقة قيمة أي وطن عندي مشروطة أو مقترنة بحقيقة قيمة المواطن فيه وليس بأكذوبة العكس مهما تجمَّلت بالشعارات والأعلام والعمائم.  

تلك هي بعض البذور والجذور والورود والأشواك والينابيع وظنون الرمال والواحات التي أوصلتني إلى إعلاء شأن الحلم والأمل والحرية، والتمرد على التنميط والانسياق والتسليم والمُسْبَقات والمبتوتات والثوابت والتصنيمات والطغاة، وكلِّ ما لا يمرّ بين شك يقيني ويقين شكّي، وفي ثنايا وانعطافات عقلي ومنطقي وحدسي وهواجسي، وما تنطوي عليه نفسي من مقاربات ومفارقات ومقارفات، إن شئتم، في المنطق واللغة والتفكير، وميولي إلى تحريك الرواكد، وتعكير ادعاءات صفاء العِرق والفكر والهداية والإلهام ويقينية المبتدى والمآل.

 

كلمات مفتاحية