ليس صعباً توقّع مستقبل منطقة الشرق الأوسط بخطوطه العريضة خاصة بالنسبة لدولنا العربية، فالمشاريع المطروحة على المنطقة لا تخفي نفسها. تعثّر المشروع التركي لأسباب كثيرة لعلّ أهمّها أنّه حاول الولوج إلى السيطرة على المنطقة من خلال استخدام راية الشعوب في مواجهة الأنظمة. كانت القوّة التركية الناعمة ماضية في اكتساح المنطقة العربية اقتصادياً وثقافياً قبل ثورات الربيع العربي، واستطاع الأتراك خلق نموذجٍ مقبول لدى الجمهور العربي المتعطّش لأي إنجاز يعطيه الأمل في المستقبل. استفاد حزب العدالة والتنمية من الماضي العثماني بثقله وظلاله وأساطيره ليشدّ وثاق العروة مع شعوبٍ عربيّة ترى في الماضي عزّاً غابراً ومجداً تليداً يغنيها عن المستقبل الضبابي غائم الملامح منعدم الوجود.
لكنّ الأتراك خسروا أوراقهم كلها عندما راهنوا على حصان الإسلام السياسي فقط، فهذا الرهان لم يأخذ بعين الاعتبار أنّ الشعوب العربية لا تأخذ بهذا الخيار على علاّته. الشعوب العربية مثل الشعب التركي المنقسم حول شكل الدولة وطبيعتها وأدوار الحكم وتوجهاتها، أي بين تيارين على طرفي نقيض، أحدهما يتمسّك بالتغريب باعتباره الطريق الصحيح للولوج في عالم المستقبل، وثانيهما يرى في التمسك بعناصر التراث ومن ضمنها القيم ذات الطابع الديني المتجذر في المجتمع، غير متعارضٍ مع التطوّر. إذن كانت بوابة الشعوب أضيق من أن يمر منها المشروع التركي، خاصّة أنّه وجد مقاومة عنيفة من قبل حلف الأنظمة، وهذا الحلف لم يقتصر بالطبع على العرب، بل شمل الإيرانيين والإسرائيليين الذين تعارضت مصالحهم الاستراتيجية مع طموحات الأتراك.
خسر الأتراك أوراقهم كلها عندما راهنوا على حصان الإسلام السياسي فقط، فالشعوب العربية مثل الشعب التركي المنقسم حول شكل الدولة وطبيعتها وأدوار الحكم وتوجهاتها، هناك من يتمسّك بالتغريب باعتباره الطريق نحو المستقبل، وهناك من يرى في التمسك بالتراث والقيم المحافظة بأنه لا يتعارض مع التطوّر.
أمّا المشروع الإيراني فقد دخل من بوّابة مزدوجة حاول من خلالها فرض ذاته على المنطقة. أول الأبواب التي طرقها كان رفع راية القدس، وهذه ليست بالقضيّة البسيطة أو السطحيّة، فهي تمثّل وجدان العرب والمسلمين، وهي ضميرهم الحي، وهي بغض النظر عن شعارات الأنظمة والحكّام، تبقى أي القدس وقضية فلسطين، الجرح النازف لشعوبٍ لا ترى انقطاعاً في رمزيتها منذ دخلها عمر بن الخطاب حتى اليوم. ثمّة خطٌّ رفيعٌ يمرّ منه وجدان العرب والمسلمين، يعلّقون عليه صور رموزهم من صلاح الدين الأيوبي إلى عز الدين القسام إلى أصغر طفلٍ يتمسّك بتراب بيته في غزّة أو الضفة. هذا المدخل الإيراني خلق تشويشاً هائلًا في المشهد السياسي، وانطلت المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية على شرائح واسعة ترى تخاذل حكام بلادها وتوليهم عن واجبهم في الدفاع عن هذا الوجود. ثاني الأبواب كان تحطيم بنية المجتمعات العربية ذاتها وتفتيتها من خلال خلق مجموعات تابعة لنظام الحكم في إيران على أسس عقديّة من جهة ومصلحية نفعية لها علاقة بالسلطة والسيطرة من جهةٍ ثانية. كانت تجربة دعم الأحزاب الشيعية المعارضة لنظام الحكم في العراق خطوةً أولى على طريق اكتساح أربع دول عربية لاحقاً، وغيرها حبله على الجرّار. من هنا كان خيار دعمِ نظام الحكم في سوريا مستنداً إلى ذات العقيدة التي رأت في احتجاجات البحرين بعداً يمكن من خلاله تعميق الولوج الإيراني في نسيج المنطقة. لكنّ الإيرانيين واجهوا أيضاً رفضاً على صعيدين، فكانت مقاومة الأنظمة مستندة إلى حسابات الحفاظ على ذاتها واستمرارها، وكانت مقاومة الشرائح الشعبية الأوسع مستندة إلى مروحة واسعة من أسباب الرفض، ليس أقلها الخلاف المذهبي.
حاول الإيرانيون فرض وجودهم بالمنطقة عبر بوابة مزدوجة، الأولى رفع راية القدس والمتاجرة بالقضية الفلسطينية، والثانية تفتيت بنية المجتمعات العربية من خلال خلق مجموعات تابعة لنظام الحكم في طهران على أسس عقدية ومصلحية نفعية.
حاول الإسرائيليون المرور من بوّابة الأنظمة، ونجحوا أكثر من الأتراك والإيرانيين، فقد ساندهم في هذا النهجِ نظامٌ عالميٌ يسيطر عليه الغرب بثقله السياسي والاقتصادي والعسكري وحتى الحضاري، كأنموذج ناجحٍ إلى حدّ بعيدٍ مقارنة ببقية النماذج الموجودة على الساحة العالمية. تمكّن الإسرائيليون من نسج شبكة مصالح وجودية تربطهم بأنظمة الحكم العربية على اختلاف توجهاتها. لم يكن التخادم مقتصراً على تلك الدول التي مشت فيما سُمّي مشروع صفقة القرن أو المشروع الإبراهيمي الذي هو مشروع تطبيعي يقفز على استحقاقات القضيّة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، بل اندرجت ضمنه أيضاً تلك الأنظمة التي عارضته وعارضت من قبل إسرائيل ذاتها ولو بالخطابة والشعارات. لا يخفى على أحدٍ مثلاً المصلحة المشتركة لإسرائيل ببقاء نظام الحكم في سوريا، وهو ما صرّحت به صحافتها عندما توّجت الأسد ملكاً لملوكها، كما لا يمكن إنكار مصلحة هذا النظام الذي اعترف مراراً وتكراراً بارتباط أمن إسرائيل ببقائه، حتى إنّ وزير خارجية إيران صرّح بهذا الأمر مؤخراً في تأكيدٍ لا تشوبه شائبة للمؤكّد. لكنّ الإسرائيليين فشلوا في استقطاب الشعوب العربية والمسلمة، فهذه الأخيرة وبنسبٍ ساحقةٍ لا يمكنها قبول المشروع الاستيطاني العنصري القائم على مزيج فريدٍ من العنجهية والاستعلاء والوحشية والإجرام. إضافة إلى ما تحدّثنا عنه من بعدٍ ضميري وجداني للقضية الفلسطينية، ثمّة إحساس عميقٌ بالنفور من المشروع الصهيوني الذي لا يتقاطع ولو بواحدٍ من المليون مع مصالح شعوب المنطقة، ثمّة إحساس شعبي يقرب من الإدراك العفوي الفطري لأبعاد هذا المشروع السرطاني وخطره الوجودي.
في حين، حاول الإسرائيليون المرور من بوّابة الأنظمة، ونجحوا أكثر من الأتراك والإيرانيين، فقد ساندهم في هذا النهجِ نظامٌ عالميٌ يسيطر عليه الغرب بثقله السياسي والاقتصادي والعسكري وحتى الحضاري، كأنموذج ناجحٍ إلى حدّ بعيدٍ مقارنة ببقية النماذج الموجودة على الساحة العالمية.
فرائس نحنُ وبلداننا كذلك، وسنبقى إلى أمدٍ بعيدٍ في ظل غياب أي مشروع عربي بمواجهة المشاريع التركية والإيرانية والإسرائيلية. أي مشروع يمكن أن تتعلّق به الشعوبُ العربيةُ، مشروعٍ يحفظ بالحدّ الأدنى كيان الدول العربية حتى ولو كان غير ديمقراطي، مشروعٍ تنمويٍّ بالحدّ الأدنى يبقي الأمل في نفوس سكان المنطقة، من شأنه أن يُبنى عليه بما يراكم عناصر قوّةٍ واعدةٍ للدخول في ركب المستقبل. وحتى تلك اللحظة، ستكون الميليشيات وعصابات الأحزاب وسلطات الأمر الواقع هي المتحكّمة في المشهد في غالبية الدول العربية، وحتى لو بقيت بعض الدول خارج إطار التخريب الإيراني المباشر عبر ميليشياتها، أو الإسرائيلي عبر الحروب والمعارك بين الحروب، أو التركي عبر تأثيره الناعم تارة والخشن تارات، فإنّ غالبيتها العظمى تتعرّض للتفكك الداخلي بحكم الفساد وانحسار دور مؤسساتها لحساب أدوارِ فئاتٍ محددة أكلت الدولة وحلّت محلها. كثيرون منا يرون أنفسهم الآن كالأيتام على موائد اللئام، والمصيبة أنّ اللئام هؤلاء ليسوا الغرباء فقط، بل جلّهم من أبناء جلدتنا.