عبر شاشة زادت الشوق تغلق مكالمتها وابنتها التي كبرت بعيدة عن مرآها، تستسلم للدموع التي وارتها عن طفلتها مقلبة بين الصور بحسرة والتنهيدة تفصح عن قلة حيلتها والألم الذي عصف بأضعف نقاط الأم قوة، ليعود لذاكرتها صوت طفلتها الذي لم يفارقها قط "لا تطولي أمي عم أستناكِ".
أوشكت الحافلة على الانطلاق، فبكى الجميع، رحت ألوح لها بيدي، أتأمل وجهها أنسخ كل تفاصيله في ذاكرتي لأقتات على ذكراه في ليالي الفراق، بعض الرحيل يختاره الإنسان والبعض يجبر عليه.
مرارة الفراق
روضة المكناة بأم عبد الوهاب مهجرة من "دمشق" طالها كحال السوريين أجمع وجع النزوح وفراق الأهل، إلا أن ما فاق طاقتها فراق طفلتها "شهد" ذات الأربعة عشر ربيعاً، تحكي لنا حكايتها فتقول: لما "ودعتها ونحنا جايين ع إدلب صارت تبكي وتقلي ماما لا تطولي علي بكيت وقلتلها شهر بالكتير وبرجعلك، وهي صرلي 5 سنين ومارجعت ولا شفتها".
تضيف أم عبد الوهاب هُجرنا من ريف دمشق سنة 2016 نقلاً بالحافلات الخضراء إلى إدلب، يومها خفت على ابنتي من التهجير والمجهول ففضلت أن تبقى عند والديَّ يعتنيان بها، لم أتوقع أن تطول بنا السنوات إلى هذا الحدّ".
معاناة أخرى
لم تقتصر مأساة "أم عبد الوهاب" فقط على بعدها عن فلذة كبدها بل فاق ذلك، حيث حرمت من الإنجاب نتيجة الحصار الذي عانت منه ذاك الوقت، تابعت حديثها بوابل من كلمات الحمد والشكر لله "صار معي حمل هاجر (خارج الرحم)، وكنا محاصرين وما في مستشفيات وعناية طبية، فاضطروا لتنزيل الطفل والآن لا أستطيع الحمل، إلا عن طريق زراعة، لأن من قبل عندي مشكلة بهاد الموضوع ، لولا الحصار الذي كنا فيه ما كنت خسرت الطفل ولا فقدت قدرتي على الإنجاب".
لا أحد يأخذ دور الأم
طيف طفلتها (شهد) أمام عينها أينما نظرت، هي الآن على مشارف النضج والأم يحزنها أن تكبر ابنتها بعيداً عن ناظريها، تكمل أم عبد الوهاب: "أكثر ما يحزنني أن أسمع أخبار ابنتي وأسرارها من أمي، بينما من المفترض أن أكون الأقرب لها، عدا عن كونها عم تكبر بعيدة عني ماعم أحسن كون معا بكل تفاصيل حياتها وشوفا قدامي بكل لحظة وبكل مرحلة من عمرا".
الوجع لم يقتصر على روضة فقط، ولكن الطفلة تتحمل من غربة والدتها ما يوازي حدّ ألم الأم خاصة عندما ترى أمهات أصدقائها برفقتهم وولدتها بعيدة عنها بحسب قول الفتاة.
ماضٍ مرتوٍ بمأساة وحاضرٌ لا يرحم
منذ أن فرضت علينا الهجرة، وجب علينا التعايش مع المعطيات، تذهب أم "عبد الوهاب" كعادتها كل صباح إلى المدرسة التي تعمل بها، كمعلمة للغة العربية في إحدى المدارس في الشمال السوري، وتسكن مع زوجها في مخيم "اليرموك" التابع لمنطقة "دير حسان" في ريف إدلب الجنوبي، حيث حكمت عليها ظروف الحياة على التأقلم مع المعطيات الموجودة فالمهجر خارج بيته يحكم بالعيش في مخيم معتمداً في قوته على المعونة الضعيفة المنتظرة نهاية كل شهر، أو يجنح للعمل إن وجد لتأمين إيجار منزل وحياة متواضعة.
ومنذ سيطرة نظام الأسد عليها عام 2018، تعيش الغوطة الشرقية في حالة متفاقمة من نقص الخدمات والمواصلات، إلى جانب التدقيق الأمني على قاطنيها، وحملات الاعتقال المتكررة.