على العكس مما هو شائعٌ، كان الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبر يفتخر بقلة عدد الكتب التي قرأها. فهناك من يرى أنه ثمة القليل من النصوص التي تستحق القراءة، وأنه، بدلًا من الانشغال بقراءة الكثير من النصوص، من الأفضل للمرء أن ينشغل بالتفكير وإنتاج أفكاره الخاصة.
في المقابل يدرك كثيرون أن المعرفة الإنسانية تراكميةٌ، وأن الإتيان بالجديد فيها يقتضي الاطلاع على القديم ونقده والبناء عليه، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقل. وهذا ما كان يفعله أرسطو، على سبيل المثال، حيث كان يبدأ كل كتبه بمراجعةٍ نقديةٍ لكل النصوص والمعارف السائدة المتعلقة بالموضوع الذي يتناوله. والاستثناء الوحيد في هذا الخصوص، كانت كتبه عن المنطق، لأنه رأى أنه يؤسس علمًا جديدًا لم يسبق لأحد قبله الكتابة فيه أو حتى التفكير فيه تفكيرًا منهجيًّا منتظمًا.
رأى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، مع كثيرين، أن الحلم الأكبر لكل كاتبٍ أن يكتب لا مجرد كتابٍ، وإنما أن يكتب الكتاب الكامل الذي يضم كل ما يراد ويمكن قوله، بدون أي نقصانٍ. لكن كل كاتبٍ يعلم أنه بدون التخلي عن إنجاز مثل ذلك الحلم، لا يمكن له أن ينجز أي كتابٍ.
ولعل الحلم الذي يسبق حلم الكتاب أو "الكتابة الكاملة"، أو يترافق معه، ويدخل معه في علاقةٍ جدليةٍ، هو حلم القراءة الكاملة، أي قراءة كل ما نرى أنه من المفيد والضروري قراءته. لكن حلم القراءة الكاملة ليس أقل استحالةً من حلم الكتابة الكاملة، والقراءة الانتقائية أو الجزئية أصبحت ضروريةً حتى في أشد الحالات الأكاديمية صرامةً. ويعلم الأشخاص الذين قاموا بإعداد رسائل الدكتوراه او حتى الماجستير أن الأمر يبدأ بإعداد قائمةٍ بالمصادر والنصوص التي ينبغي العودة إليها وقراءتها وتوظيفها في الرسالة، لكنه ينتهي بتقليصٍ مستمرٍّ لتلك القائمة واتخاذ قراراتٍ صعبةٍ في خصوص النصوص المهمة التي ينبغي استبعادها من القائمة المذكورة؛ لأن الوقت والوضع عمومًا لا يسمح بالعودة إليها وقراءتها أو حتى الاطلاع الدقيق على مضامينها، على الرغم من أهميتها. فلم نعد في زمن أرسطو حيث كان كم المعارف والنصوص المتوفرة ضئيلًا جدًّا مقارنةً بما هو متوافرٌ في الوقت الحالي. وزاد الشعور بالوفرة مع التحول إلى الكتاب الإلكتروني والإمكانية المبدئية دائمًا، والفعلية غالبًا، للحصول على كتبٍ كثيرةٍ فور صدورها أو بعد وقتٍ قصيرٍ من ذلك الصدور.
يمكن لقراءاتنا أن تترك أثرًا كبيرًا علينا، وعلى فكرنا وكتاباتنا وحياتنا عمومًا وليس من الضروري أن يحصل ذلك التأثير بطريقةٍ دراميةٍ انقلابيةٍ حادةٍ
فالقراءة ضروريةٌ للفكر وللكتابة المعبرة عنه وهي غذاؤه الرئيس إلى جانب التفكُّر الذاتي أو بعد ذلك التفكُّر. وإذا كان هوبز قد رأى ضرورة ألا يقرأ كثيرًا، فإن مفكرين وفلاسفة آخرين أدركوا مدى أهمية القراءة ليكونوا قادرين على تقديم الجديد والجيد معرفيًّا. وهذا ما حصل مع حسن حنفي، على سبيل المثال، وهو أحد أكثر المفكرين العرب غزارةً في الإنتاج؛ حيث صرَّح انه اضطر، في بعض الفترات، إلى التوقف عن الإنتاج المعرفي، وإلى "العودة" إلى التركيز على القراءة؛ لأنه تعرض للنقد، بأنه أصبح يكرر نفسه أو يكرر أفكاره، ولأنه شعر بأحقية هذا النقد.
وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم الإحباط الذي يشعر به بعض القراء "الجادين"، عند قراءة بعض النصوص الفقيرة المفتقرة إلى قراءةٍ مناسبةٍ تتغذَى بها وتستند إليها وترتقي معها. وقد عبر المفكر والكاتب القدير والقارئ المتميز عبد الجبار الرفاعي عن مثل هذا الإحباط مؤخرًا، حيث انتقد "الكتّاب الذين يكتبون في كلِّ شيء بلا قراءة أيّ شيءٍ [والذين] يسرقون وقتَ القراء غير المتمرّسين بكتابة صفحاتٍ كاملة في الجريدة، [لا يوجد] فيها إلا كلماتٍ فضفاضة مكدّسة مملة، لا تمنح القراءّ أيَّ معنىً يبني ثقافتَهم ويثري لغتَهم، فضلًا عن أن كتاباتِهم تشيع الرثاثةَ وتُفسِد ذوقَ القراء".
وينبغي أن نضبط توقعاتنا بحيث تكون متناسبةً مع السياقات المختلفة. فما (ينبغي أن) نتوقعه من مقالٍ قصيرٍ في صحيفةٍ أو موقعٍ إلكترونيٍّ، يختلف عما (ينبغي أن) نتوقعه من بحثٍ طويلٍ في مجلةٍ (أكاديميةٍ). وآمل دائمًا ألا يشعر قراء نصوصي بمثل هذا الإحباط، لكنني أتوقع حصول ذلك في بعض الأحيان.
ويمكن لقراءاتنا أن تترك أثرًا كبيرًا علينا، وعلى فكرنا وكتاباتنا وحياتنا عمومًا. وليس من الضروري أن يحصل ذلك التأثير بطريقةٍ دراميةٍ انقلابيةٍ حادةٍ، وهو ما نجده حاصلًا، مثلًا، مع كانط بعد قراءته لنصوص ديفيد هيوم، حيث "استيقظ من سباته الاعتقادي/ الوثوقي"؛ بل يمكن أن يحصل ذلك بطريقةٍ هادئةٍ وجزئيةٍ وتدريجيةٍ وتراكميةٍ.
ولمعرفة تأثير قراءاتنا فينا وفي كتاباتنا، فليتخيل الأدباء، وقراء الأدب، أنهم لم يقرأوا روايات دوستويفسكي وكونديرا وكازانتزاكي ومحفوظ، على سبيل المثال، وليتخيل الفلاسفة والمهتمون بالفلسفة أنهم لم يقرأوا نصوص أفلاطون وسقراط وديكارت وكانط ونيتشه، على سبيل المثال، وليتخيل المفكرون العرب والمهتمون بالفكر العربي المعاصر أنهم لم يقرأوا لصادق جلال العظم ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعلي حرب، على سبيل المثال. وعلى هامش هذا التخيل، يمكننا أن ندرك، أيضًا، الأهمية الكبيرة للترجمة التي نحتفل بيومها العالمي منذ أيامٍ قليلةٍ (30 سبتمبر/ أيلول). فبدون النصوص المترجمة، من المؤكد أن حال الفكر العربي والثقافة العربية عمومًا سيكون أسوأ من اعتبارات كثيرةٍ.
الكتابة تعبيرٌ عما يريد الكاتب ان يعبِّر عنه، لكنه قد تتضمن تعبيرًا لا إراديًّا عما يفلت من إرادة الكاتب ووعيه، فتعبر عما لا يريد التعبير عنه، أو عن نقيض ما أرد التعبير عنه. وعلى هذا الأساس نفهم كيف رأى كثيرون إمكانية قراءة رحيل أو موت المبدع خالد خليفة، وحتى حياته، من خلال ما تضمنته رواياته عمومًا، ومن خلال التفكير بعناوينها المميزة جدًّا، والغنية جدًّا تأويليًّا، خصوصًا. ومن المنظور التفكيكي – الذي يمثله جاك دريدا وبول دومان مثلًا وخصوصًا – إن إمكانية تعبير النصر عن نقيض مقصد كاتبه المعلن متحققةٌ في كل نصٍّ بوصفه نصًّا. ومن المنظور الهيرمينوطيقي، المعبَّر عنه في رؤية هانس جورج غادامِر وبول ريكور مثلًا وخصوصًا – ينبغي أن نستبعد التحقق الفعلي لهذه الإمكانية إلى أن يثبت العكس. وسأشرح، في مقالي القادم، هذين المنظورين (التفكيكي والهيرمينوطيقي) لجدل العلاقة بين القراءة والكتابة.