لن تسمح الفئة التي تستثمر في الدين باشتغال النقد فيه إلا على جثتها، لأنها على يقين تام بأنه إن فتح الباب للنقد سيؤدي لا محالة، إلى انهيار شامل في هذا البنيان الذي يتماسك بفعل التكفير، والتجهيل، والتعمية والإرهاب، لذلك فهي تتصدى لأي محاولة للنقد، حتى لو كان مصدرها الدين ذاته، بطريقة وحيدة هي المحاصرة والتهديد، والتشويه وصولاً إلى التكفير وهدر الدم.
لم تتخلَ الكنيسة عن سطوتها وسلطتها، إلا بعد ثورات وحروب وأنهار من الدم، ومثلها فعل وسيفعل كل كهنوت يواجه خطر فقدان سلطته وثروته التي لم تكن، ولن تكون إلا عبر تكريس فكرة حمايته للمقدس، وتفويض هذا المقدس له.
معظم محاولات النقد التي حاولت مقاربة الدين بقراءة مختلفة عما تريده الفئة المستثمرة فيه، أو حاولت إعادته إلى مجاله الطبيعي في عالمنا العربي، كانت محاولات خائفة ومرعوبة، أما من ذهب في شجاعته خطوة إلى الأمام فقد أُخرس وكُفر، وربما قُتل.
إذا أردنا المضي أكثر في قراءة ما حدث سابقاً، ويحدث اليوم، وسيحدث غداً، في علاقتنا مع الآخر، وفي إشكالات دولنا وتخلفها، وتردي أحوالها، فلابدّ لنا من مواجهة الحقيقة التي نتجاهلها، سواء أكنا جاهلين أو متواطئين، وأقصد تحديداً علاقة المواطنة والدولة والسلطة بالمقدس، الأمر الذي سيقودنا بداهة إلى علاقة السياسة بالدين، وبتحديد أكثر إلى الإسلام السياسي.
الميزة الأهم في ميزات الدولة الحديثة، والتي تشكّلت في معظم أنحاء العالم، هي القطع مع القواعد القديمة لشرعية السلطات، والتي كانت تستند إلى المقدس
لعلّ الميزة الأهم في ميزات الدولة الحديثة، والتي تشكّلت في معظم أنحاء العالم، هي القطع مع القواعد القديمة لشرعية السلطات، والتي كانت تستند إلى المقدس، واستبدلتها بالارتكاز إلى الناس في وجودهم العيني المتباين والمتعدد، الذي توحّد في مفهوم "الشعب"، فصار الشعب مصدر السلطات جميعها، ومعياراً محدداً للسلطات من زاوية درجة شرعيتها - أو عدمها - التي تتعيّن بإجراءات مثل: فصل السلطات، واعتماد الانتخابات العامة لتمثيل الشعب في هيئة تشريعية رقابية، إضافة إلى حرية تشكيل الأحزاب والمنابر الإعلامية.. إلخ.
لعلّ السمة الأهم للأنظمة التي وُلدت في منطقتنا العربية، هي غياب هذه الشرعية استنادا إلى هذا المفهوم، خاصة أن هذه الأنظمة لم تمتلك مشروعها الوطني، ولا رؤيتها الناجزة للنهوض بالمجتمعات التي أنتجتها، الأمر الذي دفع بغالبيتها للاستناد إلى الطغيان، ومصادرة الحريات، وقمع قوى المجتمع، كي تستمر في سيطرتها، ومحاولة سد الثغرة الناجمة عن غياب شرعيتها، من خلال ابتكار مرجعيات تحمل هالة القداسة، الأمر الذي يجعل من نقاشها ما يشبه الخيانة ويمكن محاكمته، فاخترعت المعارك الكبرى (فوق الوطنية)، كالصراع مع الإمبريالية العالمية والصراع العربي الإسرائيلي....إلخ، وأيضاً اخترعت صيغة "الحكم" المقدسة، في البلدان التي كانت بعيدة عن مثل هذه النماذج من المعارك، فأُعطيت السلطة طابع القداسة بربطها بالدين (تفويض من الله).
من هنا يمكننا فهم انتشار الإسلام السياسي كظاهرة في كل البلدان العربية، وعلى كل مساحتها كطريق للاستيلاء على السلطة، والتخلي بالتالي عن الصيغ الحديثة، لانبثاق آليات الحكم المتناسبة مع حاجات المجتمع، وكمحصلة لتفاعل قوى هذا المجتمع.
لا يختلف الإسلام السياسي بكل أشكاله التي عرفتها المنطقة العربية كثيرا عن بعضه، فهو يعتمد أساساً على مرجعية متعددة الأوجه، ومتعددة التفاسير، ويمكن لأي سلطة سياسية أن تفصّل وترتدي منها ما يناسبها، حتى لو كان ما تفصله يسحق معنى الشرعية ومعنى المشروعية، وتكاد الأنظمة العربية القائمة تتطابق في ذلك مع الإسلام السياسي، حتى إن ادّعت محاربته، ورفعت رايات أخرى، وبالتالي فإن السلطة في هذه البلدان، هي سلطة مأزومة، ومحكومة فقط باستمرارها باستعمال القمع والطغيان، ولهذا تعتمد على هذه الصيغة، أو تلك على الجانب العسكري، وبناء عليه يغدو تزاوج السلطة السياسية مع العسكرتاريا، أو تزاوجها مع المقدس أمراً لا بدّ منه، لإحكام السيطرة على المجتمع.
هل يمكن للإسلام السياسي بوجهيه المدني والعسكري، النهوض بمتطلبات وإدارة الدولة، والسلطة بمفهومها الحديث ومتطلباتها؟
كل أشكال الإسلام السياسي والعسكري اتسم في العالم العربي والإسلامي بابتعاده عن المضمون الاجتماعي للإسلام، أو عن تطويره بما يتناسب مع حاجات المجتمع، ومع التطور الذي وصلت إليه البشريّة، فاختزل الإسلام في العقوبات والحدود، وحارب التيّارات العلمانية الديمقراطيّة المستنيرة في الإسلام، وخارجه، التي تدعو إلى الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية وغير ذلك.
من هنا يأتي السؤال الأهم، والذي يمكن تكثيفه بالتالي: هل يمكن للإسلام السياسي بوجهيه المدني والعسكري، النهوض بمتطلبات وإدارة الدولة، والسلطة بمفهومها الحديث ومتطلباتها؟
إذا جاز لنا أن نتجاوز خطاب الأحزاب التي تتبنى الإسلام مشروعاً، والتي تتلعثم بمفاهيم حديثة، لها اشتراطاتها واستحقاقاتها مثل: (الشعب، الديمقراطية، الانتخابات، تداول السلطة..إلخ)، والتي تفشل دائماً في تحويلها إلى ممارسة، والتي فشلت في كل التجارب التي حاولت، وتمكنت منها من تظهير الشعب، واحترام سيادته إلى تجاوز الاستخدام البراغماتي للديمقراطية، ووسائلها في الوصول إلى السلطة، لكي تتكرّس ثقافة وممارسة تعترف بالاختلاف، والتباين، فتحترمه وتصونه وتغنيه.
إن مأزق الأحزاب الإسلامية لا يمكن معالجته، إلا إذا قاربتْ الإسلام من منظور تاريخي، يعترف بالمتغيّر والمتحوّل بتحوّل الأحوال، فيكون ثقافة كما هو في بدئه، وإلا إذا تعاملت مع السياسة كشأن دنيوي، لا يمكن اختصار نماذجه في مقدس مهما تعالى.
إن توظيف المقدس المتعالي في المتعين التاريخي، يعني سحق الإنسان في وجوده، وحاجاته، لصالح المجرد الذي تستخدمه وتوظفه مصالح نزّاعة للتحقّق، والتمكّن من سلطة دنيوية، تعجز بطبيعتها أن تكون عادلة وإنسانيّة، إلا إذا اعترفتْ بالمختلِف، وثقلِ حضوره الإنساني، الذي لا يمكن طمسه، أو جزّ عنقه، أو قطع يده.. والذي هو منطق الدولة في تشكُّلها، ونموّها التاريخيّ.