تصاعدت خسائر قوات النظام والميليشيات الموالية لها بشكل غير مسبوق خلال المواجهات مع تنظيم "الدولة" في البادية السورية، في الثلث الأول من شهر حزيران الحالي، وبدا التنظيم في الفترة ذاتها أكثر تكيفاً مع العوامل المستجدة في ميدان المعارك من ناحية كثافة الضربات الجوية الروسية، وكثافة الانتشار والعمليات العسكرية ضده، كما استعاد التنظيم عنصر المفاجئة من خصومه بالاعتماد على تكتيكات جديدة.
روسيا ونظام الأسد والميليشيات الإيرانية تُضيق الخناق في البادية
خسر التنظيم خلال شهر آذار ونيسان وأيار عدداً كبيراً من عناصره ومجموعاته المتحركة والثابتة في البادية السورية بمختلف قطاعاتها المتصلة (بوادي حلب وحماة ودير الزور والرقة وحمص وحماة ودمشق والسويداء)، وتعرضت خطوط الإمداد والتنقل في الفترة ذاتها للقطع المتكرر، وبدا التنظيم متأثراً بصدمة الخسائر، وكان في أضعف حالاته، ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل العسكرية التي طرأت على الميدان خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
العامل الأول يتجلى في تصاعد الضربات الجوية الروسية التي طاردت مجموعات التنظيم، ودمرت القسم الأكبر من تحصيناته (الكهوف والمخابئ)، وزاد المعدل اليومي للاستهداف الجوي في بعض الفترات عن 70 استهدافا مركزا، واستخدمت في الضربات طرازات جديدة من الأسلحة الذكية وعالية التدمير، بعضها استخدم في الإطار التجريبي للأسلحة الروسية، كما سجلت زيادة في عمليات الرصد الجوي عبر استخدام أعداد أكبر من طائرات الاستطلاع الروسية.
العامل الثاني والأهم ربما، هو زيادة الانتشار العسكري لقوات النظام والميليشيات التابع لروسيا وإيران، والذي رافقه تقسيم البادية إلى عدة قطاعات سيطرة، حيث أصبح لكل قطاع إدارة عمليات خاصة مصغرة تدير المعارك ضد التنظيم، وتشرف بشكل مباشر على عمليات إعادة الانتشار وإنشاء نقاط تمركز ثابتة، وخصوصاً في المساحات الخالية، وكان على إدارة كل قطاع تأمين شبكة من الطرق الصحراوية التي تؤمن الاتصال بين جميع نقاط ومواقع التمركز العسكري.
تسبب الانتشار العسكري الكثيف وما رافقه من تحركات لقوات النظام وحلفائها في فصل مناطق انتشار عناصر التنظيم في البادية، وقطعت خطوط الإمداد، وبات انتقال المجموعات بين بادية وأخرى مكلفاً من ناحية الخسائر البشرية، كما ساهم انتشار ميليشيا "لواء فاطميون" الأفغاني المدعوم من "الحرس الثوري" الإيراني في بادية حمص الجنوبية الشرقية في فصل بادية دمشق والسويداء عن بوادي الشمال، وانكشفت معظم مجموعات التنظيم وتحركاتها ورصدتها طائرات الاستطلاع وكانت هدفاً سهلاً للمقاتلات الحربية وللمجموعات التي كانت تنفذ عمليات تمشيط مستمرة.
الصحفية السورية عائشة صبري تعتقد أن "الحملة الجوية المركزة وكثافة عمليات الانتشار والتمشيط ضد التنظيم في البادية خلال الأشهر القليلة الماضية لم يكن لها ذاك الأثر الفعلي على قدرات التنظيم العسكرية والبشرية، ويمكن القول إنها لم تنجح في الحد من قدرات التنظيم، لكنها نجحت لفترة مؤقتة في شل حركته والتقليل من كثافة عملياته".
ولفتت صبري خلال حديثها لموقع تلفزيون سوريا إلى أن "العديد من التشكيلات التابعة للدفاع الوطني التي كانت مشتركة في الحملة العسكرية ضد التنظيم غير مؤهلة للاشتراك في هذا النوع من المعارك، فمجموعات الميليشيا من مراكز السلمية والسقيلبية ومحردة وسلحب وغيرها كانت تنسحب باستمرار من مواقعها خوفاً من الوقوع في كمائن التنظيم، وهو ما قلل من أهمية الانتشار الكثيف وأثره المفترض على تحركات وطرق إمداد التنظيم".
وأضافت أن "القوات الروسية فشلت أيضا بالزج بمقاتلي فصائل المصالحات (اللواء الثامن) في معارك البادية، لذا بقيت الحملة العسكرية غير مكتملة الأمر الذي سيمهد لعودة نشاط التنظيم كما سنرى منذ بداية شهر حزيران".
عوامل أخرى زادت من خسائر التنظيم في ذات الفترة، أهمها إشراك أعداد أكبر من المجموعات والكتائب العشائرية في المواجهات مع التنظيم والتي لديها خبرة في جغرافية المنطقة، كما تملك هذه المجموعات قدرة على تحمل الظروف الطبيعية للبادية، وكانت "الفرقة 25 مهام خاصة" (قوات النمر سابقا) التي يتزعمها العميد، سهيل الحسن سباقة في عمليات التجنيد التي استهدفت أبناء العشائر والمناطق الريفية النائية في ريفي الرقة وحلب (مناطق مسكنة ودير حافر ودبسي فرج ودبسي عفنان والسبخة وغيرها)، وتشكل ما يشبه الجيش العشائري المصغر التابع لـ الحسن.
المحلل العسكري العميد أحمد حمادة قال لموقع تلفزيون سوريا إن "كثافة النيران الموجهة ضد التنظيم وكثافة الانتشار العسكري خلال الأشهر الماضية أفقدت التنظيم العديد من عناصر القوة التي كان يمتلكها في المواجهة مع قوات النظام والميليشيات، وتسبب ذلك في استنزافه وخسارته أعدادا كبيرة من عناصره، وخسارة جزء من عتاده وطرق إمداده ومخابئه، لكن هذا النوع من التنظيمات سرعان ما يتكيف مع الظروف المستجدة، وينتقل من مرحلة الاستنزاف إلى مرحلة المبادرة والاستحواذ مجدداً على عنصر المفاجئة".
تنظيم "الدولة" يمتص الصدمة
تمكن تنظيم "الدولة" من امتصاص صدمة الحملة العسكرية ضده وانتقل من مرحلة تلقي الضربات إلى مرحلة الهجوم مستفيداً من تكتيكات جديدة وعوامل قوة أسهمت إلى حد كبير في عودة نشاطه، وتعتبر زراعة الألغام بمختلف أنواعها البدائية أهم تكتيك متبع في الوقت الحالي، والذي حصد أرواح أكثر من 60 عنصراً من قوات النظام والميليشيات في وقت قياسي منذ الأول من حزيران الحالي، وتسبب في شل حركة المجموعات المتنقلة لقوات النظام في البادية، وتسبب في قطع كثير من خطوط إمداد النقاط البعيدة.
ويركز التنظيم في تكتيك زراعة الألغام على تطويق المواقع الحيوية (آبار النفط ومكامن الفوسفات والمواقع والنقاط العسكرية الثابتة، والمعسكرات الرئيسية التي تضم قواعد الإمداد والنقل وتحوي أعداد كبيرة من مقاتلي النظام والميليشيات) بمجموعة كبيرة من شبكات الألغام، وتحولت الطرق والمناطق المحيطة بالمواقع الحيوية إلى مناطق خطرة كانت تقتل وتصيب وبشكل شبه يومي العشرات من العناصر، وفي المقابل لا تكلف التنظيم أي خسائر، ولا تجبره على المواجهة المباشرة لأن زراعة الألغام غالباً ما كانت تتم خلال ساعات الليل التي يقل فيها خطر الرصد الجوي، وتنكفئ فيه المجموعات نحو مواقعها المحصنة.
كانت منطقة السخنة في بادية حمص، وبادية السلمية في ريف حماة وبوادي معدان والرصافة في ريف الرقة الأكثر خطورة على قوات النظام والميليشيات خلال الأسبوعين الماضيين، واضطرت أرتال صهاريج النفط التابعة لمجموعة ميليشيا "القاطرجي" إلى تغيير خطوط سيرها أكثر من مرة واتباع طرق بعيدة مروراً بحلب خوفاً من عبور البادية التي امتلأت أهم طرقها بالألغام المتفجرة، كما أجبر التكتيك الجديد الميليشيات الإيرانية وقادة "الحرس الثوري" على تفادي عبور البادية بعد أن قتل عدداً من قادتهم في كمائن وألغام التنظيم مؤخراً.
الصحفية عائشة صبري ترى أن "اعتماد التنظيم على استراتيجية المواجهة البعيدة من خلال زرع العبوات الناسفة والألغام هي استراتيجية ليست بجديدة، وهو تكتيك يبرع فيه عناصر التنظيم ويحقق لهم ميزة استنزاف الخصم بأقل الخسائر، لكن السؤال المهم من أين أتى التنظيم بكل هذه الألغام والمعدات في هذا الوقت مع العلم بأن الروس وقوات النظام كانوا خلال شهر نيسان يصرحون أكثر من مرة أنهم دمروا مخابئ ومستودعات تحت الأرض وصادروا عتادا وأسلحة لمجموعات التنظيم في البادية".
وأضافت "أعتقد أن مشهد المواجهة في البادية معقد للغاية، وليس هناك جبهة موحدة ضد التنظيم، أي أن هناك تعارض واختلاف بين الاستراتيجية الروسية والإيرانية، وينعكس ذلك على أداء ميليشيات الطرفين في الميدان، ويوفر للتنظيم إمدادا مستمرا وقدرة أكبر على التكيف وتوسيع الهجمات، فأنا لا أستبعد أن التنظيم يحصل على جزء من عتاده من الميليشيات الإيرانية في بعض مناطق البادية".
المحلل العسكري العقيد مصطفى بكور قال لموقع تلفزيون سوريا إن "التنظيم في البادية السورية ما يزال يحتفظ بكثير من عناصر القوة الحركية والقدرة على المناورة العالية في أرض المعركة عن طريق استخدام المجموعات الصغيرة المدربة تدريبا عاليا على الإغارة والكمائن كما يلعب اتساع البادية السورية جغرافيا دورا كبيرا في تعزيز قدرة عناصر التنظيم على المناورة والاختباء والتمويه فهم لا يتحركون بمجموعات كبيرة أو أرتال ولا يستقرون بمكان معين فترة طويلة وهم دائمو التنقل ويستخدمون تكتيك (اضرب واهرب) لذلك فمن الصعب على الطائرات والمدفعية والصواريخ استهدافهم بضربات مركزة، ولذا فإن خسائرهم تكون قليلة قياسا بخسائر قوات النظام والإيرانيين والروس".
وأضاف العقيد بكور أن "هناك عاملا مهما لا يمكن إغفاله ساعد التنظيم على التحول من الكمون وتلقي الضربات إلى حالة الهجوم مجدداً، وهو امتلاكه خطوط إمداد نهرية تصل مناطق انتشاره في البادية السورية بمناطق انتشاره شمالي وشرقي الفرات (مناطق قوات سوريا الديمقراطية/قسد)، التنظيم يستفيد كثيراً من هذه الخطوط التي تؤمن له رفد مجموعاته في البادية بعناصر جديدة وبكميات كبيرة من الأسلحة والألغام، وقد يتم تمرير هذه المعدات والأعداد تحت أعين قسد التي تريد إشغال النظام وحلفائه واستنزافهم على يدي التنظيم، وفي المقابل نرى بأن هذه الخطوط (خطوط الإمداد والتنقل على الفرات) مكشوفة أيضا من جهة النظام والميليشيات جنوبي الفرات، وهي سياسة مضادة تهدف إلى دفع مجموعات التنظيم إلى دخول مناطق قسد بهدف إثارة الفوضى والضغط على قسد أكثر".
وأضاف العقيد بكور" إذا نحن أمام مجموعة كبيرة من العوامل العسكرية والجغرافية التي ساعدت التنظيم على التكيف مع كل مستجد عسكري في الميدان، وأمنت له البقاء والتوسع في عملياته، والمزاعم الروسية والإيرانية أيضا حول الحملات العسكرية المتكررة ضد التنظيم في البادية والتي تهدف إلى القضاء عليه كلياً محل شك، على الأقل بقاء التنظيم فيه مصلحة لواحد من الطرفين، ولقسد إذا اعتبرنا أنها طرف ثالث في مثلث المواجهة مع فلول التنظيم في البادية ومناطق شرقي وشمالي سوريا".