يتواصل القصف المركز لفصائل الجيش الوطني السوري والجيش التركي على مواقع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في محيط منطقة "نبع السلام" شرقي الفرات، وتحلق المسيرات التركية بكثافة غير مسبوقة في سماء منطقة العمليات العسكرية وفي عمق مناطق سيطرة "قسد"، وتنفذ الطائرات غاراتها بين الحين والآخر على أهداف ثابتة ومتحركة في المنطقة، مستهدفة قيادات بارزة في صفوف الأخيرة وفي صفوف "حزب العمال الكردستاني" (PKK) المنتشرين في مناطق شمال شرقي سوريا.
محاور التصعيد:
بالتزامن مع القصف البري الذي يكون في الغالب متبادلاً تشهد جبهات "نبع السلام" اشتباكات متقطعة بين طرفي القتال، والتي تتركز في ثلاثة محاور رئيسية، الأول محور عين عيسى شمالي الرقة، وفيه تستهدف نيران المعارضة وقواعد الجيش التركي نقاط تمركز متقدمة لـ"قسد" وقرى يتحصن فيها عناصرها، أهمها (صيدا والمعلق ومشيرفة والناصرة ومخيم عين عيسى) ونقاطاً أخرى على الطريق الدولي M4.
وفي هذا المحور الأول تحوز فيه فصائل "حركة التحرير والبناء" التابعة للجيش الوطني على القسم الأكبر من خط المواجهة في حين ينتشر "الفيلق الثالث" ومعه فصائل أخرى في القسم المتبقي، أما المحوران الثاني والثالث فيقعان في ريف الحسكة ولفصائل "هيئة ثائرون للتحرير" الغلبة من حيث حجم الانتشار، وهما محورا تل تمر وأبو رأسين (زركان)، والأخير أكثر اشتعالاً، وبدت فيه "قسد" مرتبكة.
وقد شهد محور "زركان" في 8 من نيسان الحالي، وصول تعزيزات عسكرية لـ"قسد" التي بدأت فعلياً بدعم دفاعاتها بعد أن تعرضت مواقعها المحصنة لحملات قصف متتابعة مدفعية وصاروخية أدت إلى تدمير جزء كبير منها، وفي اليوم ذاته قالت مواقع إعلامية موالية لها إن "32 مواطناً من أهالي ناحية زركان انضموا إلى قوى الأمن الداخلي في الناحية التي تتعرض يومياً لهجمات عنيفة بهدف كسر المقاومة".
وتقع أهم التحصينات التي تم استهدافها بالنيران البرية في المحورين الثاني والثالث على أطراف قرى (زركان وتل أحمر وأم كهف وأبو حجر وتل جمعة وبصيص الفوقاني وأم هرملة ومشرفة أم عشب، وغيرها) من القرى والمزارع القريبة من خط المواجهة والتي حولتها "قسد" إلى منطقة عسكرية بعد أن نزح عنها سكانها.
النيران تلاحق قادة "قسد" وPKK
في 5 من نيسان الحالي، رصد موقع تلفزيون سوريا وصول تعزيزات عسكرية تابعة لـ"قسد" إلى محور عين عيسى، تضم مركبات عسكرية رباعية الدفع وشحنات من الذخائر، وأعداداً إضافية من المقاتلين الذين تم توزيعهم على نقاط التمركز في الخط الدفاعي الأول، واستقبل محور تل تمر تعزيزات مشابهة بداية شهر نيسان، كما تم رصد تصاعد قصف الفصائل والجيش التركي، والزيادة الكبيرة في الطلعات الجوية للطائرات المسيرة منذ 20 من آذار الماضي، وزادت عن 30 عنصراً حصيلة قتلى "قسد" خلال ثلاثة أسابيع تقريباً، سقطوا بالقصف الجوي والبري.
وفي الفترة ذاتها تم رصد أكثر من 20 عملية استهداف نفذتها المسيرات التركية على مواقع ثابتة لـ "قسد" وأخرى متحركة على الطرق الرئيسية في ريفي الرقة والحسكة، ففي 4 من نيسان قصفت مسيرة مقراً في زركان/أبو رأسين مخلّفة قتلى وجرحى من عناصر المقر بينهم قيادي وصفته مواقع مقربة من "قسد" بالبارز، وفي اليوم ذاته أُصيب القيادي في "المجلس العسكري السرياني" التابع لـ"قسد"، أورم ماروكي، وعنصر آخر كان برفقته، بغارة جوية من طائرة مسيّرة تركية استهدفت سيارتهما العسكرية شمالي محافظة الحسكة.
وفي 2 من نيسان استهدفت مسيرات تركية نقاطاً لقسد في محيط عين عيسى وعلى أطراف قرية "زور مغار" بريف عين العرب، وفي 1 من نيسان قتلت مسيرة أخرى عدداً من عناصر "قسد" بينهم قادة بعد أن استهدفت سيارتهم على طريق بلدة القحطانية شمال شرقي الحسكة، وتكرر إعلان وزارة الدفاع التركية عن تحييد عناصر وقادة من "قسد" والعمال الكردستاني في الفترة بين 20 و 31 من آذار.
تكتيكات جديدة
قال الصحفي إبراهيم حبش لموقع تلفزيون سوريا إن "توسيع وتكثيف القصف الجوي والبري ضد قسد شرقي الفرات لا يعني بالضرورة انطلاق عملية عسكرية برية ضدها، والتصعيد الحالي من جانب الفصائل والجيش التركي في جبهات نبع السلام ينقسم لقسمين، الأول يأتي في إطار الرد على قصف قسد للمنطقة المحررة، ومحاولاتها المتكررة لتنفيذ عمليات تسلل، والقسم الثاني من التصعيد ربما يمكن إدراجه في إطار التكتيكات المستجدة التي تهدف إلى ملاحقة قادة وتجمعات حزب العمال الكردستاني وتدمير تحصيناتهم ومخابئ قسد في المنطقة القريبة من الجبهات، وقد أثرت حملة القصف فعلياً على قدرات قسد وPKK، ومن المتوقع استمرار التصعيد لحين تحقيق هدف إضعاف العدو".
يبدو أن فاعلية التكتيكات الجديدة للفصائل والجيش التركي لا تقتصر على ضرب دفاعات خصومهم والعمل على إضعافها وملاحقة أبرز قادتها، بل تستفيد الفصائل أيضاً من النشاط المتصاعد للمسيرات التركية من ناحية رصد تحركات "قسد" ونقاط تمركزها، وتوزع عتادها وأعدادها، وهو ما ساعد على توجيه فاعل للنيران البرية، وهو ما أسهم أيضاَ في إفشال محاولات التسلل التي تشتهر بها مجموعات "قسد".
استغلال الانشغال الروسي لإضعاف "قسد" و"PKK"
يرى الباحث في مركز جسور للدراسات، عبد الوهاب عاصي خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن "تركيا تستغل انشغال روسيا بأوكرانيا لتقليص التزاماتها بتطبيق مذكّرة سوتشي (2019)، وهذا يُلاحظ بتراجع معدّل تسيير الدوريات المشتركة من 5 إلى 3 شهرياً، مقابل القصف الجوي والصاروخي الكثيف والواسع ضد أهداف حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية".
يضيف عاصي "كانت الدوريات بمثابة وسيلة لمراقبة تدمير البنية التحتية لـ PKK وضامن بالحد الأدنى لتقليص أنشطته على طول الشريط الحدودي شرق الفرات بعمق 10 كم. لكنها عملياً لم تؤدِ إلى تحقيق ذلك فقد تم استخدامها أكثر من مرّة لتنفيذ عمليات ضد مصالح تركيا الأمنية داخل أراضيها وفي سوريا".
وتابع "هذا ما يُفسّر لجوء تركيا إلى تقليص التزامها بمذكّرة سوتشي
(2019) في ظل انشغال روسيا بأوكرانيا، أي أنّها تستخدم هذا الشكل من التدخّل كوسيلة لضمان تقويض أنشطة حزب العمال الكردستاني في سوريا. لكن ذلك لا يعني إطلاق عملية عسكرية بريّة في الوقت الراهن على أقل تقدير، لأنّ تركيا حريصة على استمرار التنسيق والتعاون مع روسيا وبالتالي عدم تقويض آليات العمل المشترك، وحتى لو لم يندلع الصراع في أوكرانيا كان من المفترض أن تلجأ تركيا إلى هذا التصعيد في شرق الفرات، فقد بدأت باستخدام العمليات الجوية عبر الطائرات المسيّرة منذ منتصف آب 2021 وتكرر هذا الشكل من التدخّل في أيلول أيضاً، وفي شباط 2022".
وأوضح عاصي بأن "الرئيس رجب طيّب أردوغان صرّح منتصف تشرين الأول 2021 بأنّ بلاده ستكافح التنظيمات الإرهابية بشكل مختلف، في إشارة يبدو أنّها ترتبط بالقدرة على تحقيق الأهداف دون اللجوء إلى إطلاق عمليات عسكرية برّية؛ أي عبر عمليات القصف المكثّف والواسع الجوي والصاروخي، وربّما لاحقاً تنفيذ عمليات وقائية عبر القوات التركية أو فصائل المعارضة، وبهذا الشكل من التدخّل استطاعت تركيا ضرب طرق الإمداد ومنشآت التسليح والتدريب وخطوط التهريب والكوادر التابعة لحزب العمال الكردستاني".