في جنازة مهيبة، من بين الأكبر في تاريخ تركيا الحديث والمعاصر، خرجت الجموع التي تتجاوز مئات الآلاف لتشييع الشيخ محمود عثمان أوغلو الشهير بـ "محمود أفندي" زعيم جماعة "إسماعيل آغا"، بعد وفاته عن 93 عاماً يتقدمهم الرئيس رجب طيب أردوغان بحي الفاتح العريق في إسطنبول، بمشهد حمل استفتاء شعبياً رمزياً قبل عام من عقد أهم انتخابات في تاريخ الجمهورية.
لم يكن شيخ الرئيس أردوغان، وشيخ الطريقة النقشبندية محمود أفندي زعيماً روحياً للحركة الصوفية منذ عدة قرون، إنما من الشخصيات المؤثرة بشكل ناعم على تناغم الدين والسلطة في عهد العدالة والتنمية ومن أصحاب الدور الأساسي في توجيه الناخبين لدعم مرشح رئاسي أو حزب تحت قبة برلمان، وهو مثال مهم على دعم الجماعات الإسلامية لأردوغان.
لم يكن ذلك المشهد وحيداً، بل يمكن العودة إلى ليلة الانقلاب العسكري الفاشل في 15 تموز 2016 (اتهمت جماعة فتح الله غولن بقيادته)، حيث لعبت الجماعات الإسلامية عموماً وجماعة "إسماعيل آغا" خصوصاً؛ دوراً أساسياً بإفشال الانقلاب بعد نزول أبنائها إلى الشوارع يرتدون عمائمهم وسراويلهم القماشية الخاصة ليواجهوا العسكر بأجسادهم وصدورهم العارية، ويشكلوا قوة شعبية في طرقات إسطنبول ومدن تركية أخرى، دافعت إلى الرمق الأخير عن ديمقراطية البلاد وشرعية الرئيس المنتخب بالصناديق.
صراع هوياتي طويل
لم تكن الجماعات الإسلامية في حال أفضل من التي نشطت فيها خلال العقدين الماضيين في تركيا بعهد حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث عانت تلك الجماعات على مدار 80 عاماً من اضطهاد وعزل كبير مع الحد من أنشطتها إلى درجة الحظر والإغلاق، منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، وإلغاء الخلافة عام 1924.
وخلال العشرين عاماً الماضية نشطت الجماعات الإسلامية في تركيا بشكل كبير جداً، وحققت حضوراً وانتشاراً كثيفاً خصوصاً في مدينة إسطنبول ومدن الأناضول، مع التأثير الثقافي والاجتماعي الواسع والذي يتصل بالدور السياسي غير المعلن.
ومع هيمنة مصطفى كمال أتاتورك وحزبه "الشعب الجمهوري" على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، عمل على تغيير المجتمع التركي عبر تشريع قوانين تفرض العلمانية، أو عُرف لاحقاً بالعلمانية الأتاتوركية التي حاولت جهدها أن تقطع صلة سكان تركيا بماضي الدولة العثمانية والدول العربية والإسلامية مع التوجه التام نحو الثقافة الغربية والاحتفاظ بالنزعة القومية التي كانت بأوج صعودها في أوروبا مع نشوء حركات قومية مثل الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا.
وتضمنت حملات أتاتورك نشاطاً واسعاً ضد كل ما يتصل بالثقافة الإسلامية ومظاهرها، حيث تم حظر الطربوش العثماني، وفرض القبعة الأوروبية، واستبدل التقويم الهجري بالتقويم الميلادي وحظرت اللغة العربية ورفع الأذان باللغة التركية، ووضعت المساجد تحت تصرف الحكومة.
ورغم التأثير الكبير الذي حققته الكمالية إلا أنها لم تستطع التغيير الكامل في المجتمع التركي، إنما قسمت المجتمع شاقولياً وفرزته إلى قسم يريد تغيير كل شيء وإلغاء الماضي بشكل كامل تهيمن عليه العلمانية بسطوة العسكر، وقسم يريد الحفاظ على هويته التاريخية وارتباطه بالدين والمجتمع المحافظ.
وتجذرت الحالة العلمانية عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية المتباعدة زمنياً والتي أجهضت الكثير من فرص التطور والاستقرار على الجمهورية المحرومة من النفوذ الإقليمي لزمن طويل.
كل ذلك دفع الجماعات الإسلامية في عموم تركيا للاستمرار في جهودها لإبقاء الحالة الدينية التركية على قيد الحياة في تحدٍ واضح للسلطة ما ولد الكثير من التيارات والجماعات والطرق الصوفية، خصوصاً أن الدولة والجماعات الدينية لم يكن سياسياً بقدر ما كان أيديولوجيا وهوياتياً متدخلاً في يوميات السكان وعاداتهم وملابسهم وطعامهم وشرابهم.
مجتمع صوفي تاريخياً
وبعد التعددية الحزبية التي حصلت بعد عام 1946، ووصول الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس إلى رئاسة الوزراء عام 1950 بدت أول خطوة نحو كسر الهيمنة الحزبية الواحدة التي قادها حزب الشعب الجمهوري برؤيته العلمانية لمدة 27 عاماً متواصلة، وإن لم يكتب لتلك الحالة الديمقراطية بالاستمرار بسبب الانقلاب العسكري عام 1960، إلا أنها بداية ظهور الجماعات والحركات والأحزاب التي تحمل أفكاراً محافظة ضمن ما بات يعرف باليمين ويمين الوسط في مواجهة الأحزاب الأخرى التي اتجهت إلى مناحي راديكالية بعهد المنظومة "الأتاتوركية".
كانت الحركات الصوفية هي الأعلى صوتاً في تركيا منذ قيام الدولة العثمانية، حيث أولت للصوفيين اهتماماً كبيراً، وأعطتهم مساحة متقدمة على جميع التيارات الإسلامية، وخلال حقبة الجمهورية كانت في حالة شد وجذب مع النظام الحاكم الجديد الذي لم ينظر إليها بنفس الطريقة وقرب بعضها وأبعد أخرى.
ورغم أن الطرق الصوفية بشكل عام ذات نظرة تعبدية وأخلاقية في مضمونها، وتنزع إلى الزهد بالدنيا، وتركز على العبادات والأذكار والرقائق والطقوس التي تشمل الموالد وإحياء المجالس الإنشادية والمولوية، إلا أنها حملت بعداً سياسياً في العديد من حالاتها بتركيا.
وكان للصوفيين رموزهم ومؤثروهم ومشايخهم الذين كانوا على الدوام مرشدين لفئات كبيرة من المجتمع التركي شملت الأحزاب السياسية ذات الخلفيات الإسلامية، وسكان البلاد على تنوعهم القومي والعرقي من أتراك وكرد وعرب وغير ذلك.
ما أبرز الجماعات الإسلامية في تركيا؟
يختلف تأثير الحركات والجماعات الإسلامية في تركيا من الناحية السياسية والمجتمعية بما يتصل بأماكن انتشارهم وتمركزهم، وصلاتهم بالأحزاب السياسية التي تشكلت قديماً أو حديثاً.
ولهذه الجماعات أبعاد تاريخية مثل الطريقة النقشبندية التي أسسها (محمد بهاء الدين نقشبند) قبل نحو 10 قرون، والطريقة المولوية نسبة إلى مولانا جلال الدين الرومي، والتيجانية والقادرية والرفاعية والخلوتية وغيرها.
جماعة النور
أسسها الشيخ سعيد النورسي (1873-1960) حامل لقب "بديع الزمان" والمولود في مدينة فان شرقي البلاد، وهي من أقدم الجماعات الإسلامية في تركيا عاصرت العهدين العثماني والجمهوري، وأخذت اسمها من "رسائل النور" التي ألفها شيخها سعيد.
وتعتبر الجماعة من أبرز الحركات التي وقفت بوجه العلمانية في تركيا مع بداية تأسيس الجمهورية عام 1923، آثرت الابتعاد عن السياسة وليس لها أي حزب سياسي رسمي.
دعمت الجماعة الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وفق تصريحات أحد تلامذة الشيخ "سعيد النورسي"، " محمد فيرنجي" لصحيفة صباح التركية.
جماعة إسكندر باشا
أسسها الشيخ "محمد زاهد كوتكو" المتوفى عام 1980، أحد أبرز مشايخ الطريقة النقشبندية بتاريخ تركيا، وكان لها دور مهم بالمشهد السياسي التركي في سبعينيات القرن الماضي حيث تتلمذ على يده الكثير من السياسيين الأتراك بمن فيهم نجم الدين أربكان الذي أسس حزب النظام الوطني عام 1970.
جماعة "إسماعيل آغا"
ولعل من أبرز الجماعات الصوفية بتركيا جماعة "إسماعيل آغا" التي تعد زعيمة الطريقة النقشبندية وأكبر جماعة دينية في تركيا عدداً وأكثرها تأثيراً، أخذت اسمها من جامع "إسماعيل آغا" بمنطقة الفاتح بمدينة إسطنبول.
للجماعة أوقاف كثيرة خاصة بها، وانتشار كبير بإسطنبول وعموم تركيا، وتعتمد في تمويلها على أموال التبرعات وإدارة الأوقاف بطريقة احترافية، كما يمتاز أعضاؤها بلباسهم الخاص، ولهم مدارسهم وجمعياتهم المنتشرة داخل وخارج البلاد.
أسسها الشيخ الراحل محمود أفندي (1929 -2022) المولود في قضاء أوف التابع لولاية طرابزون شمالي تركيا، والذي كان شيخ الطريقة النقشبندية بتركيا ويقدر عدد أتباعه في تركيا بالملايين، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن كتلتها الانتخابية وحدها بين 2 إلى 3 بالمئة من الأصوات في عموم تركيا.
جماعة السليمانية
تعد من أكثر الجماعات راديكالية في الطريقة النقشبندية، أسسها سليمان حلمي تونهان، وتحمل اسمه، ترفض الحياة الغربية بمجملها ولها حضور واسع في أنحاء تركيا وخارجها وخصوصاً ألمانيا.
ورغم أنها دعمت حزب العدالة والتنمية في كل الانتخابات السابقة إلا أن بعض الاتهامات لها بارتباطها بجماعة فتح الله غولن، خلال الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016 جعلها تنقلب على الحزب الحاكم وتذهب بأصواتها خلف حزب الجيد الذي تقوده ميرال أكشنر.
تشير دراسات متعددة إلى أن الجماعة دعمت مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو في انتخابات بلدية إسطنبول، خصوصاً بانتخابات الإعادة، ما يحمل العديد من المؤشرات عن أهميتها في الانتخابات المقبلة.
ويرجح أن الجماعة قد تعيد انتخاب أردوغان في الانتخابات المقبلة خوفاً من خسارة المحافظين للسلطة وذهابها إلى غير رجعة ليد العلمانيين.
جماعة المنزل
ظهرت بقوة عقب الانقلاب العسكري عام 1980، على يد مؤسسها محمد راشد أرول، وكانت من الجماعات الداعمة للدولة ما ساهم في زيادة انتشارها في العديد من الولايات التركية خاصة الغربية منها التي تعد من أبرز معاقل حزب الشعب الجمهوري (العلماني).
يعد السياسي الشهير محسن يازجي أوغلو مؤسس وزعيم حزب الاتحاد الكبير التركي أحد أبرز أبنائها الأوفياء وأكثرهم شهرة. ودعم هذا الحزب حزب العدالة والتنمية، وشاركه بوزيرين في أول حكومة يشكلها عام 2003، وما زال يصطف إلى جانبه في تحالفاته السياسية.
"حركة الرؤية الوطنية"
تعرف باسم (Milli Görüş) بالتركية، وهي حركة سياسية دينية ومجموعة من الأحزاب الإسلامية التركية مستلهمة من زعيمها نجم الدين أربكان الذي كان من أبرز رؤساء وزراء البلاد، ورائد الأحزاب الإسلامية التركية.
تعتبر أكبر منظمة إسلامية تعمل في الغرب، تأسست عام 1969، ويتجاوز عدد أعضائها عشرات الآلاف، يعتقد أن قواعدها الشعبية دعمت العدالة والتنمية في معظم الانتخابات رغم وجود حزب السعادة الوريث التقليدي لأربكان، إلا أن تأسيس ابنه محمد فاتح أربكان لحزب "الرفاه مجدداً" وانسحابه من انتخابات الرئاسة دعماً لأردوغان قد يوجه أصوات الحركة له، خصوصاً مع تحالف حزب السعادة مع الطاولة السداسية المعارضة وترشيح كمال كليتشدار أوغلو رئيساً لتركيا.
جماعة فتح الله غولن
ورغم أن معظم الجماعات الإسلامية تدعم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة، إلا أن جماعة "الخدمة" التي أسسها الداعية التركي فتح الله غولن (مقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1999)، دعمته في البدايات ثم انقلبت عليه، واتهمتها الحكومة التركية بترتيب انقلاب عسكري عام 2016، أفشله الشعب بنزوله إلى الطرقات ومواجهة الدبابات وسلاح العسكر.
أسس غولن حركته الدينية بمنطلقات اجتماعية وتعليمية ويظهر ذلك من مؤسساته التعليمية المنتشرة في كل أنحاء تركيا والعالم، لم تحمل أبعاداً سياسية ولم يصطدم مع الدولة التركية على العكس تماماً كان مهادناً، واتخذ منهجاً مختلفاً عن جميع الحركات والجماعات الإسلامية بتركيا، خصوصاً تلك التي تتخذ من الإسلام السياسي مرجعية أساسية.
يصل عدد أعضاء حركة الخدمة بين مليون و3 ملايين شخص، وكانت تخترق العديد من مؤسسات الدولة التركية وخصوصاً الأمنية منها.
الجماعة المنقلبة على الرئيس
كانت حركة غولن حليفاً سابقاً لحزب العدالة والتمنية التركي. وكان اتحاد الجهتين ضد المؤسسة العسكرية والنخبة العلمانية عندما وصل الحزب ذو التوجه الإسلامي للسلطة في 2002 وذلك بالرغم من الاختلافات الجوهرية بينهما، واستمر الدعم حتى عام 2011، إلا أن الخلافات وصلت إلى طرق مسدودة، بما عرف لاحقاً بأزمة جهاز الاستخبارات.
وتعتبر حركة غولن حركة إرهابية منذ 11 كانون الثاني 2015 عندما وضعتها الحكومة التركية على قائمة المنظمات الإرهابية تحت اسم المنظمة الكولينية الإرهابية FETÖ.
ألقت الحكومة التركية باللوم على الحركة عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 وألقت القبض على الآلاف من الجنود والقضاة. كما سحبت رخصة التدريس لأكثر من 20000 معلم في منشأت خاصة بتهمة الانتماء إلى جماعته، رغم نفي غولن لعلاقته بالانقلاب.