بدأت أصوات الغضب والتنديد تتصاعد في الأوساط المدنية اللبنانية، بعد اعتراف مسؤولين في مرفأ بيروت بأن الانفجار الضخم الذي وقع أول أمس الثلاثاء، وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 135 شخصاً وجرح الآلاف وتدمير عدة أحياء في المدينة، كان متوقعاً وموضع تحذيرات متكررة تجاهلتها السلطات القضائية والأمنية.
مسؤولية حكومية
وحسب وثيقة تداولها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي يعود تاريخها إلى نهاية العام 2017، يطلب فيها المدير العام للجمارك في لبنان بدري ضاهر من قاضي الأمور المستعجلة تحديد مصير كمية من "نترات الأمونيوم" الموجودة في أحد عنابر مرفأ بيروت لأنها تشكل خطراً في حال بقائها.
وتشير الوثيقة إلى أن مديرية الجمارك أرسلت عدة كتب للقضاء، طالبت سابقاً، ولعدة مرات في الأعوام 2014، 2015، 2016، 2017، بإعادة تصدير كمية "نترات الأمونيوم" التي أفرغت من باخرة تجارية تحمل الاسم "The RHOSUS" استناداً لقرار قاضي الأمور المستعجلة في العام 2014.
وأكد المدير العام للجمارك اللبنانية، بدري ضاهر صحة الوثيقة، وقال في تصريح لقناة "LBCI" اللبنانية، أن مديرية الجمارك أرسلت ست وثائق بتواريخ منفصلة إلى القضاء تحذر من أن المواد تشكل خطراً على المرفأ والمدينة، مضيفاً "طلبنا إعادة تصديره لكن ذلك لم يحدث".
ونقلت وكالة "رويترز" عن مصدر مقرّب من إدارة المرفأ قوله إن فريقاً من المسؤولين تفحصوا الشحنة قبل ستة أشهر، وصفوها بأنها "قنبلة عائمة"، وأنه "إذا لم يتم نقلها من المرفأ فإنها ستفجّر بيروت كلها"، بينما قال مصدر آخر إن "العديد من اللجان والقضاة تم تحذيرهم من وجود هذه الشحنة في المرفأ ولم يفعل أحد شيء للتخلص منها".
موجة غضب
وأثار الكشف عن إهمال الجهات الحكومية، الذي تسبب بأسوأ انفجار في تاريخ لبنان الحديث، موجة غضب جديدة تجاه الطبقة السياسية بين اللبنانيين الذين يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر، بحسب تقارير رسمية.
وتصاعدت موجة الغضب ضد السياسيين اللبنانيين يوم أمس إلى حد كبير، حيث هاجم متظاهرون وسط بيروت موكب رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وتشاجروا مع مرافقيه الذين اعتدوا على بعض المتظاهرين.
كما هتفت جموع من اللبنانيين ضد الرئيس ميشيل عون واصفة إياه بالـ "الإرهابي" أثناء تفقّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأحد مراكز المساعدة الطارئة، ما حدا بالأخير للقول للجمهور "سأقترح اتفاقية سياسية جديدة في لبنان، وسأعود في الأول من أيلول من أجل ذلك، وإذا لم يتمكنوا من ذلك فسوف أتحمل مسؤوليتي السياسية".
— 𝕬𝖎𝖉𝖆 𝕬𝖑𝕺𝖙𝖆𝖎𝖇𝖎 (@Aidaotaabi) August 6, 2020
— Mohamad Ali Harissi (@aleeharissi) August 6, 2020
وفي إشارة إلى تلاشي الثقة الدولية بالطبقة السياسية في لبنان، قال الرئيس الفرنسي لدى وصوله إلى مطار بيروت إن بلاده "ستقوم بتوزيع المساعدات بنفسها، دون الاعتماد على الحكومة اللبنانية".
الغموض سيد الموقف
من جهة أخرى، ما يزال الغموض يلف أسباب الانفجار، وسبب وصول النيران إلى مستودع شحنة نترات الأمونيوم، التي تتطلب درجة عالية من الحرارة للانفجار، ونقلت وكالة "رويترز" عن أحد المصادر قوله إن "الحريق بدأ في المستودع رقم 9 في مرفأ بيروت، قبل أن ينتشر إلى المستودع رقم 12 حيث تم تخزين نترات الأمونيوم"، وأكد المصدر أن الحريق الأولي في المستودع رقم 9 ما يزال مجهول السبب.
وما زاد من حدة الغموض تصريح المدير العام للجمارك اللبنانية، أثناء حديثه مع قناة "LBCI" أن "بلدية بيروت استجابت لنداء الحريق وأرسلت رجال إطفاء إلى الموقع، لكنهم فقدوا بعد الانفجار"، الأمر الذي يؤكد أن النيران اشتعلت لفترة كافية قبل أن يصل طاقم الإطفاء إلى موقع الحدث.
وأظهرت عدة لقطات مصورة لحظات الانفجار، حيث بدأ بتصاعد دخان كثيف رمادي من أحد مستودعات المرفأ ترافق مع انفجارات أصغر، تلي ذلك الانفجار الكبير الذي تسبب بسحابة حمراء نتجت عن انفجار نترات الأمونيوم.
وأظهرت صور جوية حفرة عميقة في أرض المرفأ حيث يقع المخزن 12 بجانب صوامع الحبوب المدمرة والمنطقة المحيطة بها مدمرة بالكامل، وقال محافظ بيروت، مروان عبود إن "الأضرار الناجمة عن الانفجار امتدت إلى أكثر من نصف مدينة بيروت، مع احتمال أن تتجاوز كلفة الأضرار ثلاث مليارات دولار".
وقال وزير الاقتصاد اللبناني راؤول نعمة إن "الأضرار التي لحقت بالصوامع تركت البلد باحتياطي يكفي لأقل من شهر"، لكنه أكّد في الوقت نفسه أنه لا خطر من نقص الغذاء مشيراً إلى وجود مخزون وبواخر كافية في طريقها لتغطية احتياجات لبنان على المدى الطويل.
عن الشحنة
نقلت صحيفة "الغارديان" البريطانية عن تقارير إعلامية تعود للعام 2014، أن سفينة روسية كانت تحمل شحنة نترات الأمونيوم، تبلغ 2750 طناً، تم حجزها في مرفأ بيروت في ذلك العام، بعد أن توقفت بشكل طارئ للصيانة، لكن سلطات المرفأ منعتها من المغادرة لأنها اعتبرتها غير صالحة للإبحار.
وقال قبطان السفينة وتدعى روسوس "The Rhosus"، في مقابلة مع صحفيين روس قبل ست سنوات، إن مالك السفينة واسمه إيغور غريتشوشكين "Igor Grechushkin"، قد تخلى عنها مع أفراد طاقمها الذين يحملون الجنسية الأوكرانية، وبقوا محتجزين من قبل سلطات الجمارك اللبنانية، وأكد القبطان أن "المالك تخلى عن الشحنة والسفينة وطاقمها"، مضيفاً حينها "نحن نعيش منذ 10 أشهر فوق برميل بارود".
كما نقلت الصحيفة البريطانية من رسالة نشرها صحفي على اتصال بأفراد الطاقم وصفه السفينة بأنها "قنبلة عائمة والطاقم رهينة على متن هذه القنبلة".
وقال محامو الطاقم، في مذكرة تعود للعام 2015، إن أفراد الطاقم الأوكراني احتجزوا على متن السفينة لما يقارب العام، قبل أن تطلق السلطات سراحهم وتصادر شحنة نترات الأمونيوم وتنقلها إلى أحد مستودعات المرفأ.
وفي مقابلة مع "راديو أوروبا الحرة"، نفى قبطان السفينة وجود مشكلات مع السفينة، وقال إن سلطات المرفأ احتجزتها لعدم دفع رسوم المرفأ، بينما أكد "الاتحاد الدولي لعمال النقل"، أن السفينة محتجزة جزئياً لأنها مدينة للمرفأ بمبلغ 100 ألف دولار على شكل فواتير غير مدفوعة.
عودة إلى الثمانينات
مشهد دمار مرفأ بيروت أعاد إلى الأذهان صورة المدينة إبان الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً، وخرج منها لبنان منهكاً ومنقسماً سياسياً واجتماعياً، بينما يعزز المشهد العام المتأزم سياسياً واقتصادياً منذ شهور أن لبنان لا يلبث أن يخرج من أزمة ليدخل بأخرى أسوأ منها.
الأمر الذي أشار إليه الأكاديمي والاستشاري اللبناني ستيفان بازان في منشور على صفحته في "فيسبوك" أن "ما حدث بالأمس هو نتيجة عدم كفاءة ما يسمى بالأشخاص المسؤولين"، مضيفاً "كم عدد الكوارث التي لا تزال تنتظرنا؟ نفدت الكهرباء، وتسممت المياه، والطعام مشبوه، والأسلحة في كل مكان، لقد سرقوا أموالنا ومستقبل أطفالنا".