في أواسط شهر تشرين الثاني 2021، كان ملف الدعوى القضائية التي رفعت ضد عبد الحميد شعبان على وشك أن يغلق، وهو مواطن سوري عمره 32 عاماً، عمل في السابق لدى أمن الدولة التابع لنظام بشار الأسد في سوريا، وجرى اعتقاله عند تخوم العاصمة الفرنسية في شباط 2019، ووجهت إليه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من قبل المدعي الخاص في باريس. فقد أجري تحقيق على يد فريق المحكمة على إطار العمل الذي قدمه قيصر، والذي يضم مجموعة من الصور المريعة التي تظهر فيها جثث لسجناء قام قيصر بالتقاط تلك الصور لهم، وقيصر مصور عسكري من سوريا، وهكذا تم التوصل إلى أدلة تثبت تورط شعبان في اعتقال المتظاهرين ما بين عامي 2011-2013 وذلك في العاصمة دمشق.
إلا أن تلك العملية توقفت فجأة، وذلك عندما أصدرت محكمة النقض وهي أعلى سلطة قضائية في فرنسا بالنسبة للقضايا المدنية والجنائية، حكماً في 24 تشرين الثاني 2021 يقضي بأن الدعوى التي رفعت ضد شعبان مخالفة للقانون، إذ شكك هذا القرار بكل الدعاوى التي رفعت في فرنسا ضد شخصيات سورية وغير سورية متهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كما قوّض ذلك القرار مصداقية فرنسا في محاربتها لعملية الإفلات من العقاب.
ويعتبر هذا القرار بمثابة ضربة أتت أقوى من الحكم الذي أصدرته محكمة وطنية ألمانية في 13 كانون الثاني، أقيمت في كوبلينز على الضابط أنور رسلان، وهو مسؤول منشق عن مخابرات نظام الأسد.
ثمة عوامل أخرى جعلت من القرار الصادر عن محكمة النقض الفرنسية شيئاً أتى في غير أوانه، إذ بعد تولي فرنسا رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر أهم هيئة تجمع حكومات الدول الأوروبية، أصبح من الأنسب لفرنسا أن تتحول إلى مثال يحتذى من قبل شركائها.
كما أن هروب عم الديكتاتور الذي يحكم سوريا، أي رفعت الأسد، من فرنسا في تشرين الأول 2021، بالرغم من الحكم الصادر بسجنه من قبل محكمة فرنسية، يذكرنا بتهاون تلك الدولة منذ مدة طويلة تجاه كبار الشخصيات التي سبق أن كانت جزءاً من نظام الأسد.
خلال السنوات الماضية، سعت الدبلوماسية الفرنسية لتعبئة المجتمع الدولي لمحاربة فكرة الإفلات من العقاب، كما لعبت دوراً فعالاً في ضمان نشر الصور التي توثق تعذيب النظام للمعتقلين، والتي عرفت باسم ملفات قيصر، مع المساهمة بتشكيل الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لدى الأمم المتحدة والتي ترأسها قاض فرنسي، فضلاً عن دعم الدولة الفرنسية للجنة التحقيق حول سوريا، إذ لم يكن أسبوع يمضي دون أن يقوم وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان بالتأكيد على التزام بلاده بالسعي لتحقيق العدالة.
ففي شهر شباط من عام 2020، شارك وزير الخارجية الفرنسي بالتوقيع على نص مع غيره من الوزراء الأوروبيين جاء فيه: "سنبقى على التزامنا لاسيما ضمن إطار ولاياتنا القضائية الوطنية، حتى لا تمر الجرائم المرتكبة في سوريا دون عقاب".
ومن النتائج غير المقصودة لإيقاف الدعاوى القضائية التي رفعت ضد سوريين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية تقويض أي عمل ضد فكرة الإفلات من العقاب يتصل باستخدام الأسلحة الكيماوية. وهنا أيضاً، لعبت فرنسا دوراً رائداً بوصفها رئيسة للشراكة الدولية ضد مبدأ الإفلات من العقاب بالنسبة لاستخدام الأسلحة الكيماوية، حيث تضم تلك الشراكة نحو أربعين دولة.
أما بالنسبة للسلطات الفرنسية التي تسعى لصياغة رد مناسب، فقد كان السؤال:
لمَ توصلت محكمة النقض الفرنسية إلى هذا القرار؟
تتمتع فرنسا بسلطة محدودة من الولاية القضائية الشاملة، فقد صدر فيها قانون في 9 آب 2010 يقضي بدمج القانون الفرنسي مع نظام روما الأساسي الذي تم بموجبه تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، وهذا القانون يسمح برفع دعاوى قضائية ضد أفراد يقيمون في فرنسا عند اتهامهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
ومن بين الشروط المطلوبة بموجب هذا القرار "التجريم المزدوج"، والذي لا يحق بموجبه للنيابة الفرنسية أن تجري محاكمة للجرائم إلا عندما يتم تجريمها بشكل صريح من قبل الدولة التي ارتكبت فيها تلك الجرائم، أو في حال كانت تلك الدولة عضواً في نظام روما الأساسي، وبالتالي قامت بتجريم ذلك العمل عبر التصديق على تلك المعاهدة. إلا أن محكمة النقض في فرنسا نبهت إلى أن ذلك لا ينطبق على الحالة السورية، بالرغم من أن السلطات القضائية الأدنى منها رتبة فسرت الأمور بطريقة مختلفة.
فإذا أرادت فرنسا لنفسها أن تظهر بمظهر المنسجم مع التزاماته الدولية، فسيكون الخيار الوحيد المتاح أمام حكومة إيمانويل ماكرون هو تعديل القانون الصادر في عام 2010 وذلك لإسقاط شرط "التجريم المزدوج"،
إذ خلال نقاش قام لدى لجنة الشؤون الخارجية في 18 كانون الثاني، التزمت وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية بالتحرك في هذا الاتجاه، حيث ورد في بيانها الذي تم تعميمه بشكل صريح ما يلي: "إن وزارة أوروبا والشؤون الخارجية تؤيد بحزم فكرة إسقاط شرط التجريم المزدوج للجرائم ضد الإنسانية، بشرط أن يتم التوصل إلى طرائق برلمانية مناسبة، وستصبح عملية الإسقاط تلك قابلة للتطبيق بشكل فوري".
وهنا تتضح أهمية هذا الموقف، ولكن ما تزال هنالك عقبتان:
الأولى هي أن وزارة العدل الفرنسية وليس وزارة الخارجية هي المسؤولة عن سياسة التجريم. إذ خلال الأشهر التي سبقت إصدار محكمة النقض الفرنسية لقرارها، رفضت وزارة العدل الفرنسية التعديلات المقترحة من قبل أعضاء في البرلمان سعوا لتعديل هذا القانون.
ولهذا ليس بوسع المرء إلا أن يتمنى أن تدفع عملية إيقاف الدعاوى القضائية التي وقعت في 24 تشرين الثاني 2021 وزارة العدل الفرنسية إلى إعادة النظر بموقفها هذا. وذلك لأن القرار الذي أصدرته محكمة النقض يوضح عبثية شرط عملية التجريم المزدوج بكل تأكيد.
وهنا يبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى يمكننا أن نرجح قيام دولة ترتكب جرائم ضد الإنسانية بتجريم تلك الجرائم أو أخذ أي حظر لتلك الجرائم على محمل الجد؟
الثانية فتتمثل بالتقويم البرلماني، إذ مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في فرنسا والتي ستقام في نيسان المقبل، سيتم إغلاق جلسات البرلمان الحالي بنهاية شهر شباط، وذلك لأن الموعد المقرر للانتخابات العامة هو 12-19 حزيران، لذا لن يعقد المجلس الجديد أي جلسة له حتى شهر تشرين الأول القادم، ولكن يمكن لجلسة استثنائية أن تعقد في حزيران أو تموز، إلا أن هذه الجلسة لن تناقش سوى قضايا محلية عاجلة.
وبالتالي، ستقع على عاتق الحكومة الجديدة وعلى مجلس النواب الجديد مهمة إعادة النظر في القانون الصادر عام 2010، وهذا لن يحدث قبل نهاية العام على أقل تقدير.
ويوم الأربعاء الماضي أصدرت وزارتي الخارجية والعدل الفرنسية بياناً مشتركاً أكدتا فيه على أن "فرنسا تتحرك بشكل كامل من أجل مكافحة إفلات مرتكبي الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا وفي أي مكان في العالم من العقاب"
وجاء في البيان أن الحكومة قدمت مشروع قانون يجيز الموافقة على اتفاقية التعاون القضائي الدولي بين الحكومة الفرنسية و الأمم المتحدة ممثلة بالآلية القضائية الدولية المستقلة والمحايدة الخاصة بسوريا. هذا القانون تم اعتماده للتو من قبل الجمعية الوطنية وسيتم طرحه للدراسة في مجلس الشيوخ.
وأشار البيان المشترك إلى أن حكم محكمة النقض الصادر بتاريخ 24 تشرين الثاني 2021، الذي ينص على ضرورة وجود تجريم في القانون السوري يمكن مقارنته مع القانون الفرنسي، "يخضع لمزيد من المراجعة".
وأضاف البيان: "وبالتالي فإن وزاراتنا سوف تتابع بعناية قرارات المحكمة المقبلة التي سيتم اتخاذها. وبناءً على هذه القرارات، فإن وزاراتنا ستكون مستعدة للتعريف السريع بالتغييرات والتي تشمل التغييرات التشريعية، التي ينبغي إجراؤها من أجل تمكين فرنسا من مواصلة تنفيذ أعمالها بحزم في إطار التزامها المستمر بمسألة الإفلات من العقاب على الجرائم الدولية.
ولذلك فإن مسؤولية هذا القانون تقع على عاتق كل الأطراف التي التزمت بمحاربة مبدأ الإفلات من العقاب في فرنسا، ويتمثل ذلك بمواصلة التعبئة لئلا يضيع المزيد من الوقت. إذ من المعيب جداً بالنسبة لفرنسا أن تتخلف عن ركب بقية الدول، لاسيما إن كانت تلك الدول شريكة لها في الاتحاد الأوروبي، وذلك فيما يتصل بالجهود الساعية لتحقيق العدل بالنسبة لضحايا نظام الأسد.
وإن كان مجال تغيير مجرى الأحداث في سوريا محدوداً، فمن الأشرف اتخاذ موقف ضد الجرائم البشعة التي ارتكبها نظام الأسد. ومن المؤسف أن نرى فرنسا وقد تحولت إلى ملاذ آمن بالنسبة لعملاء الأسد، بما أن عبد الحميد شعبان يسير في شوارعها اليوم حراً طليقاً.
أما على المستوى السياسي، فإن إدانة المسؤولين عن جرائم النظام أو شركائه في تلك الجرائم تسهم في تقويض شرعية عشيرة الأسد، إذ في الوقت الذي تتجه فيه غالبية الدول لتطبيع علاقاتها مع نظام الأسد، بصبح من المهم عدم نسيان طبيعة النظام الحقيقية التي أدخلت سوريا في غياهب الجحيم السحيقة.
المصدر: مجلس الأطلسي