شكّلت بلدة كفرنبودة بريف حماة الشمالي، عقدة حقيقية لروسيا وحليفها نظام الأسد، فبعد محاولتين فاشلتين على مدار أسابيع في عامي 2013 و2015، ضمن هجومين شاملين بهدف اجتياح الشمال الحموي، استطاعت قوات النظام هذه المرة السيطرة على بلدة كفرنبودة، بعد أن دمرتها بقصف استمر أسبوعاً قبل اقتحامها.
تقع بلدة كفرنبودة التي بلغ عدد سكانها قبيل الثورة السورية قرابة الـ 20 ألف نسمة، في أقصى ريف حماة الشمالي وعلى نهاية الخط التنظيمي الفاصل بين محافظتي حماة وإدلب. كباقي بلدات وقرى المنطقة، يعتمد الأهالي على الزراعة بنسبة كبيرة، جميعهم من المكون العربي السني.
تعتبر كفرنبودة نقطة الوصل ما بين ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، وتقع في منتصف المسافة ما بين مدينة مورك على الطريق الدولي حلب – دمشق، وقرى سهل الغاب ومدينة سقيلبية ذات الغالبية المسيحية، والتي باتت مركز انطلاق لهجمات النظام بحكم موقعها على مفترق طرق رئيسية.
دخلت البلدة في الثورة السورية باكراً، وخرجت المظاهرة الأولى المناهضة للنظام فيها، في السابع عشر من نيسان عام 2011، تزامناً مع وصول الحراك الثوري إلى باقي مدن وبلدات ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي المجاورين. داهمت قوات النظام وشبيحته من القرى القريبة ذات الأغلبية العلوية، البلدة أواخر عام 2011 لكنها لم تستقر بداخلها.
خارطة سيطرة متغيرة.. باستثناء كفرنبودة
وشهدت خارطة السيطرة على المنطقة المحيطة بكفرنبودة من ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، تغيرات كبيرة جداً، سيطرت الفصائل مؤقتاً ولمرات عدة على البلدات الواقعة بين كفرنبودة ومدينة محردة المسيحية على بعد 20 كم، ووصلت سيطرة الفصائل مرتين أيضاً لحدود مدينتي قمحانة وخطاب اللتان لا تبعدان عن مدينة حماة إلا 5 كيلو مترات فقط.
في خارطة السيطرة المتغيرة منذ بداية تشكيل مجموعات الجيش الحر بداية عام 2012، وحتى أواخر 2017، ولمسافات تجاوزت الـ 15 كيلو متراً؛ بقيت كفرنبودة منذ بداية السيطرة عليها أواخر عام 2011 بعيداً عن سيطرة النظام الذي أطلق معركته الأولى عام 2013 وفشل، ثم أطلق الروس في بداية تدخلهم الثانية وفشلوا، وصولاً إلى المحاولة الثالثة الجارية حالياً، والتي ما زالت غير محسومة النتائج.
توحدت كتائب بلدة كفرنبودة من الجيش الحر (كتيبة الفدائيين - كتيبة شهداء كفرنبودة - كتيبة الحرمين - كتيبة الحمزة والعباس)، في أيلول من عام 2012 تحت مسمى "لواء النصر"، بقيادة يوسف الحسن الذي أصبح لاحقاً قائداً لـ "جبهة حق المقاتلة"، أبرز فصائل المنطقة من سهل الغاب وجبل شحشبو وريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي.
الهجوم الفاشل الأول
في نيسان من عام 2013، أطلقت قوات النظام عملية برية مدعومة بغطاء جوي، بهدف السيطرة على بلدة كفرنبودة، واستمرت المعارك بشكل شبه دائم. ليوقف النظام هجومه بعد ثلاثة أشهر، دون أن يحقق النظام أي تقدم بري، إلا أن الاشتباكات الدائرة والقصف المستمر تسبب بدمار واسع في المنازل ونزوح معظم سكان البلدة إلى مخيمات الحدود التركية.
في أواخر عام 2014، سيطرت جبهة النصرة على مقرات ومستودعات "جبهة حق المقاتلة"، بعد أن أنهت النصرة أبرز حلفاء "حق" كـ "جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف، و"ألوية الأنصار" بقيادة مثقال العبد الله. وحينها حذّر العديد من قادة الفصائل والناشطين من أن تؤدي هذه الضربة بحق "جبهة حق" لانهيار بلدة كفرنبودة وسقوطها.
أطلقت الفصائل بعد ذلك معارك عدة سيطرت فيها مؤقتاً على بلدات ومعسكرات للنظام محيطة بكفرنبودة. وبعد أن حقق "جيش الفتح" عام 2015 انتصاره الكبير بالسيطرة على ما تبقى من محافظة إدلب، وصولاً إلى جبال الساحل السوري، أعلنت روسيا تدخلها رسمياً في سوريا لإنقاذ نظام الأسد الذي كان يواجه معارك الغوطة والجنوب والشمال في الوقت نفسه.
طائرات زاحفة ومجزرة دبابات.. والهجوم الثاني الفاشل
وفي السابع من تشرين الأول عام 2015، أصرت روسيا على اجتياح الريف الشمالي لحماة، وأطلقت هجوماً واسعاً من ستة محاور في مورك والصياد واللطامنة وعطشان والمصاصنة وكفرنبودة، وشارك الطيران الروسي الحديث بالمعركة للتمهيد لقوات النظام البرية، كما قصفت روسيا هذه المدن والبلدات بصواريخ البارجات.
وبدأ الهجوم الروسي بتحليق أربع طائرات هلكوبتر روسية حديثة من طراز "Mi-28NM"، فوق بلدة كفرنبودة، على ارتفاع أقل من 100 متر، قادمة من فوق بلدة كرناز ومنطقة الصوامع، لتضرب محيط البلدة بعشرات الصواريخ بهدف بث الرعب في قلوب المقاتلين وضرب نقاط رباطهم.
وبعد أن وصلت تعزيزات فصائل الجيش الحر من المدن والبلدات المحيطة من حماة وإدلب، وأسقطت الرشاشات الثقيلة للفصائل إحدى هذه المروحيات، انسحبت البقية. لتبدأ المرحلة الثانية من الخطة الروسية المتمثلة باجتياح بري بالدبابات والعربات المدرعة.
عُرف ذلك اليوم باسم يوم "مجزرة الدبابات" في شمال حماة، فقد دمّرت فصائل الجيش الحر أكثر من 30 دبابة وعربة عسكرية، بصواريخ الـ م/د من التاو والكونكورس.
مُنيت روسيا بهزيمة كبيرة في شمال حماة في تشرين الأول 2015، وسبق ذلك تدمير عدة أرتال للنظام حاولت اقتحام مدينة مورك القريبة. وهكذا أوقفت روسيا حملتها المفاجئة على الشمال الحموي.
بعد هاتين المعركتين، باتت البلدة شبه مدمرة بالكامل، ودفعت براميل النظام وقذائفه الأهالي للنزوح، حتى باتت كفرنبودة خاوية عل عروشها. وبات معظم الـ 20 ألفاً، نازحون في مخيمات إدلب، وبلداتها القريبة.
لم تتوقف هجمات جبهة النصرة عند "جبهة حق"، واستمرت على هذا النحو لتضرب ما تبقى من فصائل الجيش الحر المدعومة بالأسلحة والذخائر والتي يقع على عاتقها تأمين مئات نقاط الرباط في الشمال الغربي لسوريا من إدلب وحماة وحلب واللاذقية، وكانت آخر هذه الضربات في نهاية عام 2018، بحق "الجبهة الوطنية للتحرير" التي كانت فصائلها أساساً قد تلقّت ضربات سابقة قبل أن تجمّع نفسها في "الجبهة الوطنية".
النظام يطأ كفرنبودة للمرة الأولى منذ 2011
مع بداية العام الجاري ازداد التصعيد الروسي على إدلب الخاضعة لاتفاق سوتشي، بوتيرة متصاعدة، وهدّدت موسكو على لسان مسؤوليها العسكريين والدبلوماسيين بشن هجوم عسكري على إدلب والأرياف المحيطة بها. مع بداية أيار كانت كثافة القصف الجوي للطائرات الروسية وطائرات النظام توحي باقتراب هجوم عسكري واسع، خاصة وأن القصف تركز في معظمه في مدن وبلدات شمال حماة وجنوب إدلب.
في الثامن من أيار الجاري، بدأت قوات النظام تحت غطاء جوي روسي كثيف جداً تقدمها نحو بلدة كفرنبودة، لتسيطر عليها بعد اشتباك دام يوماً واحداً، وذلك للمرة الأولى منذ خروجها عن سيطرة النظام أواخر عام 2011، وأكملت قوات النظام تقدمها لتسيطر بعد ذلك على بلدة قلعة المضيق المجاورة.
استمرت وتيرة القصف وسياسة الأرض المحروقة لروسيا والنظام على كامل المنطقة، وتركّزت في الخطوط الخلفية لخط النار الجديد، وتسبّب ذلك باستنزاف الفصائل في الدفاع عن بلداتهم ومدنهم. وعندما عجزت قوات النظام في التقدم نحو الهبيط وجبل شحشبو على مدار أسبوع من المحاولات اليومية المتكررة، رتّبت الفصائل لهجوم مضاد بغية استعادة السيطرة على بلدة كفرنبودة.
وانتقلت الفصائل من الدفاع إلى الهجوم للمرة الأولى، في الـ 13 من الشهر الجاري عندما شنّت هجوماً مباغتاً على نقاط النظام المتقدمة، بعد تمهيد محدود بالمدفعية وصواريخ الغراد. وركزت الفصائل هجومها على تلة الحماميات الواقعة غربي مدينة كفرزيتا، وفي الخاصرة الشرقية لطرق إمداد النظام نحو بلدة كفرنبودة، وبعد أن وصلت مجموعات الاقتحام إلى مشارف بلدة كرناز الملاصقة لكفرنبودة، ونتيجة للقصف المكثف للنظام على المنطقة وفشل المحاور في قلعة المضيق، انسحبت مجموعات الاقتحام إلى مواقعها السابقة، بعد أن أوقعت خسائر كبيرة في صفوف النظام.
لتكون الضربة الثالثة لحلف النظام وروسيا في كفرنبودة، يوم الثلاثاء الماضي (21 أيار الجاري)، عندما أطلقت الفصائل العسكرية معركة استعادة بلدة كفرنبودة في الساعة الثامنة مساءً، لتعلن سيطرتها الكاملة على البلدة فجر اليوم التالي. خسر النظام أكثر من 10 دبابات وعربات عسكرية بين تدمير واغتنام.
شاهد ماذا فعلت الفصائل برتل النظام المنسحب من كفرنبودة (فيديو)
استعاد النظام يوم أمس السيطرة على كفرنبودة، بعد أن انحازت منها الفصائل تكتيكياً، تحت ضربات طائرات النظام وروسيا التي ألقت ما يزيد عن ألف برميل وصاروخ وأكثر من 2000 قذيفة مدفعية وصاروخ راجمة.
في اليوم نفسه، وقبل أن يُكمل النظام تمشيط البلدة، شنّت الفصائل مساءً، هجوماً معاكساً لاستعادة السيطرة على البلدة، وكسرت الخطوط الأولى، لكن الهجوم باء بالفشل.
وما زالت سيطرة النظام على كفرنبودة، هشّة، لأن البلدة ما زالت خط مواجهة مع الفصائل التي تتلقى دعماً مستمراً من تركيا، ولأن المجموعات التي شاركت في الدفاع والهجوم لا تتجاوز نسبتها 5% من مجمل القوة العسكرية للفصائل المختلفة في الشمال الغربي من سوريا.