تصاعدت وتيرة التهديدات التركية خلال الأيام الماضية ببدء عملية عسكرية ضد "قوات سوريا الديمقراطية" بريف حلب الشمالي، بالتزامن مع إرسال تعزيزات عسكرية، سواء للجيش التركي، أو الجيش الوطني السوري إلى خطوط التماس مع "قسد"، في محيط مدينة تل رفعت، وقصف الطيران المسير التركي والمدفعية لعدة مواقع وتحصينات في المدينة، بعضها يتبع لنظام الأسد، ما ينبئ بقرب "ساعة الصفر" أكثر من أي وقت مضى.
ويرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنه لا داعي للاستعجال فيما يتعلق بالعملية المرتقبة، وقال في 1 تموز الجاري إن العملية الجديدة في سوريا ستجري حينما يحين الوقت المناسب، مضيفاً: "قد نأتي على حين غرة ذات ليلة".
تدريبات ورفع للجاهزية
بالتزامن مع التصريحات السياسية التركية، تتسارع الأحداث على أرض الميدان، حيث دفع الجيش الوطني السوري بتعزيزات إلى محيط مدينة تل رفعت شمالي حلب، تضمنت مدرعات وقاذفات صواريخ.
وعلى مدار الأيام القليلة الماضية، دخلت أرتال عسكرية تركية إلى الشمال السوري، تضمنت دبابات ومدافع ثقيلة وشاحنات ذخيرة وعربات مدرعة، توزعت على القواعد العسكرية التركية القريبة من خطوط التماس مع "قسد".
بدورها أجرت الفصائل التابعة للجيش الوطني مناورات عسكرية، ورفعت الجاهزية استعداداً للمشاركة إلى جانب الجيش التركي في عملية محتملة قد تكون مدينة تل رفعت مسرحها، خاصة مع تفعيل مجلس تل رفعت العسكري، وإعلانه حشد قواته للسيطرة على المدينة.
وقال الناطق باسم مجلس تل رفعت العسكري، جهاد جمال، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إن المجلس أنهى التجهيزات العسكرية، وباتت قواته (أكثر من 4 آلاف مقاتل) على أهبة الاستعداد لخوض المعركة بمجرد إعلان ساعة الصفر.
وأشار جمال، إلى تشكيل مجموعات مهمتها تأمين القرى والبلدات المزمع السيطرة عليها، من أي تجاوزات أو فوضى، ثم تأمين دخول المدنيين بعد إزالة الألغام التي زرعتها قسد بالتعاون مع عدد من خبراء التلغيم من عناصر تنظيم الدولة.
وعن دور المجلس في إدارة المدينة، قال جمال: "سيتم تسليم إدارة المدينة للمؤسسات والهيئات المدنية، ولن يكون هناك أي دور للمجلس العسكري بإدارة المنطقة، ولن يسمح بوجود مقار عسكرية لأي فصيل داخل المدينة".
تصعيد تركي وتحركات ميدانية
كثّفت القواعد التركية المنتشرة في ريف حلب الشمالي قصفها لمواقع "قسد" في المنطقة، بوساطة المدفعية الثقيلة، مع مشاركة الطيران المسير في بعض الأحيان بعمليات القصف التي طالت مواقع للنظام أيضاً.
ويوم أمس الأحد تعرضت نقطة عسكرية لنظام الأسد في مدينة تل رفعت للاستهداف من قبل طائرة مسيرة تركية، ما أدى لإصابة عنصرين، في تطور اعتبره مراقبون رسالة مباشرة للنظام أن انتشار قواته في المدينة لن يعرقل سير العملية المرتقبة أو يؤخر موعد انطلاقها.
وبعد القصف، قالت مصادر ميدانية لموقع تلفزيون سوريا إن رتلاً لقوات النظام يحوي أكثر من مئة آلية دخل مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" من معبر التايهة في ريف منبج، مضيفة أن الرتل "ضخم جداً"، وجاء من مدينة تل رفعت بريف حلب.
وفي الوقت نفسه، أرسلت روسيا مزيدا من الجنود إلى شمال شرقي سوريا، حيث قالت وكالة "Rusvesna" الروسية، إن نحو 300 جندي مظلّي روسي بذخيرة كاملة وصلوا عبر طائرات روسيّة، أمس الأحد، إلى مطار القامشلي الدولي.
مواقف الدول الفاعلة
حتى الآن، هناك رفض ثلاثي (أميركي - روسي - إيراني) لأي تصعيد تركي في الشمال السوري ضد "قسد"، إلا أن الحكومة التركية ما زالت تؤكد على أحقيتها في إطلاق عملية جديدة لحماية الأمن القومي وإبعاد عناصر "قسد" عن الحدود الجنوبية لتركيا مسافة 32 كيلومتراً.
ويعرف السوريون حق المعرفة أن التصريحات الإعلامية لأي دولة فاعلة في سوريا، لم تكن يوماً مؤشراً كافياً لمعرفة الموقف الصريح من حدث ما، إذ يمكن نسف هذه المواقف خلال اجتماع واحد "خلف الأضواء" تعقد فيه "الصفقات"، ليصبح بعدها التحرك العسكري مسألة وقت.
وسبق أن قالت صحيفة "حرييت" التركية: "قبيل إجراء أول عملية عسكرية تركية، وعلى هامش قمة العشرين في أنطاليا عام 2015، أعلم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الروسي فلاديمير بوتين بإجراء العملية العسكرية في منطقة جرابلس، ليردّ بوتين بأن الاعتراض سيكون إعلامياً، ولكن ميدانياً لن تعيق روسيا العملية العسكرية".
وفي أواخر شهر حزيران الماضي، أكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، خلال لقاء مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، على ضرورة تبديد المخاوف الأمنية لتركيا في سوريا "بأسرع وقت وبشكل دائم"، لكنه سرعان ما بدل تصريحاته عندما وصل إلى دمشق، حيث اعتبر أن أي إجراء عسكري من تركيا لتبديد مخاوفها في سوريا، يعد عاملاً مزعزعاً للاستقرار في المنطقة.
في حين علّقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على العملية التركية المحتملة بالقول: "نحث شركاءنا الأتراك على الامتناع عن الخطوات التي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد خطير للتوترات".
من جهته قال وزير الخارجية التركي اليوم الإثنين، إن لتركيا اتفاقية مع روسيا والولايات المتحدة، وكان يتوجب عليهما سحب "الإرهابيين" من جنوب الحدود التركية مسافة 30 كيلومتراً، لكنهم لم يفعلوا ذلك.
وأوضح أنه خلال الآونة الأخيرة "زادت التنظيمات الإرهابية هجماتها على الأراضي التركية من سوريا، وبالتالي فإن تركيا لا تتوانى في القضاء على أي تهديد يأتيها من الجانب السوري، وفي حال لم تلتزم هذه الدول بوعودها، فإن تركيا ستتخذ الخطوات وفقاً لذلك، لأنها لن تسمح لأي تهديد ضدها".
متى ستبدأ العملية التركية؟
كانت صحيفة "حرييت" قد أكدت أن العملية العسكرية التركية ستكون متزامنة على جبهتي تل رفعت ومنبج، ولكن بعد انتهاء العمليات العسكرية في العراق، متوقعة أن تنطلق بعد إكمال التحضيرات، وتحديداً بعد عيد الأضحى بساعات أو بأيام قليلة.
وهناك عوامل عديدة تُشكل القرار التركي بخصوص العملية العسكرية وتوقيتها ونطاقها الجغرافي، منها بحسب الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية، محمود علوش، ما هو مرتبط بحسابات عسكرية وأخرى بعلاقات أنقرة مع الفاعلين المؤثرين في هذه القضية وهم روسيا والولايات المتحدة وإيران بنسبة أقل.
ولا يبدو حتى الآن أن الظروف الدبلوماسية نضجت لإطلاق العملية، وهذا ما يُفسر التريث التركي في إطلاقها.
ويقول الباحث في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "على اعتبار أن الأهداف التي تتحدث عنها تركيا تشمل تل رفعت ومنبج وكلاهما يقعان في منطقة نفوذ روسيا وليس الولايات المتحدة، فإن أولوية أنقرة هي التفاهم مع موسكو بخصوص العملية، هذا الأمر ضروري إذا ما أرادت تركيا خفض التكاليف السياسية والعسكرية المترتبة على أي عملية".
ومن الواضح أن موسكو وطهران تُعارضان هذه العملية بدوافع مختلفة، ويؤكد "علوش" أن مفهوم الشراكة التركية الروسية في سوريا يقوم بدرجة رئيسية على المقايضات، فإن موسكو تسعى على الأرجح إلى انتزاع بعض المكاسب من أردوغان لا سيما تخفيف القيود التي فرضتها أنقرة على حركة وصولها إلى سوريا، إذ طالب مسؤولون روس أنقرة بإعادة فتح مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية من وإلى سوريا.
وبالنظر إلى التجارب الناجحة للتفاهمات العديدة التي أبرمتها تركيا وروسيا في سوريا، فإن البلدين نظرياً قادران على إبرام تفاهم جديد بخصوص تل رفعت ومنبج، لكنّ حقيقة أن ديناميكية الشراكة التركية الروسية باتت مرتبطة بشكل أكبر بموقفهما المتناقض من حرب أوكرانيا ما يزيد من التعقيدات.
وعلى الرغم من إقرار موسكو وطهران بهواجس تركيا المشروعة من "قسد"، فإنهما تضغطان على أنقرة لإبرام تفاهم مع نظام الأسد بخصوص مستقبل تل رفعت ومنبج.
ولا تبدو تركيا بوارد المضي في مثل هذا المسار الآن، لأن ذلك سيعني انفتاحاً سياسياً على النظام وسيفتح نقاشاً حول مستقبل المناطق الأخرى الخاضعة للإدارة التركية في الشمال السوري، وفقاً للباحث، الذي يعتقد أن الضربات التركية الأخيرة للنظام رسالة واضحة بأن أنقرة عازمة على شن عملية عسكرية سواء كان ذلك بتفاهم مع روسيا وإيران أو بدونه.
أهمية المناطق المستهدفة
ركّز الإعلام الرسمي التركي مؤخراً على مدينتي تل رفعت ومنبج بريف حلب، حيث وصفت وكالة "الأناضول" الرسمية مدينة تل رفعت بـ "درة حلب"، كما تغنت بالتاريخ والعراقة والتراث الخاص بمدينة منبج.
وتبعد منبج مسافة 85 كيلومتراً شرق مدينة حلب، ويفصلها عن الحدود التركية نحو 30 كيلومتراً، وتقول الوكالة، إن عدد سكان منبج بلغ قرابة 550 ألف نسمة، ويتبع لها إدارياً عدد من النواحي و314 قرية ومزرعة شرق نهر الفرات وغربه.
وجاء في التقرير أن منبج تشكل مساحة 3.5 بالمئة من المساحة الإجمالية لسوريا، وتتمتع بالعديد من الثروات الطبيعية مثل المياه والحجر السوري والأراضي الخصبة والعديد من الجبال التي تحتوي على معادن مختلفة مثل البورن والجبال الكلسية.
وتقع المدينة على الطريق الدولي "M4" الذي يربط شرقي سوريا بغربها، كما تعد من أهم المدن التي تنتج مادتي القمح والشعير على مساحة 120 ألف هكتار صالح للزراعة نظراً لوفرة المياه السطحية والجوفية.
أما مدينة تل رفعت، فتضم 12 قرية و7 مزارع، وتتألف من مركز الناحية وقرى ومزارع احرص، وزيتان المصنع، وتل جبين، ودوير الزيتون، وتل عجار، وكفر أنطون، وتنب، وطاطمراش، والشيخ عيسى، وعين دقنة، والبيلونية، وكشتعار، وكفر ناصح، وقنقوز، وجيجة، وكفر نايا، والشيخ هلال، ومسقان، ودير جمال.
وأفاد مدير مكتب تل رفعت الإعلامي شهم آرفاد، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بأن العدوان الروسي على منطقة تل رفعت وما حولها عام 2016 تسبب بتهجير أكثر من 200 ألف نسمة، من ضمنهم 60 ألفاً من أهالي تل رفعت والنازحين إليها.
ويرى "آرفاد" أن السيطرة على تل رفعت تشكل أهمية خاصة، للأسباب الآتية:
- إعادة عشرات آلاف المهجرين إلى بيوتهم من مخيمات عشوائية هي الأسوأ، تنتشر على الشريط الحدودي.
- تأمين الحماية لبقية المخيمات وللمدن والقرى المحررة التي تغصُّ بالنازحين والأهالي وتتعرض باستمرار للقصف من قبل "قسد" والميليشيات التابعة لها.
- توسيع المنطقة المحررة وعودة عشرات الآلاف لزراعة أراضيهم وتشغيل منشآتهم ومحالهم الصناعية والتجارية.
- تأمين إبعاد "الإرهاب" عن المناطق المحررة والأراضي التركية التي يطولها القصف.
- إزالة كافة المخيمات العشوائية المنتشرة شمال حلب والتي يمثل أهالي منطقة تل رفعت 95% من قاطنيها.
- إفشال مخطط التغيير الديموغرافي الذي تعمل عليه قسد ونظام الأسد.
وكما هو حال العمليات التركية السابقة في سوريا، يبقى موعد العملية المحتملة ومسارها مرهوناً بالتوافقات والمفاوضات السياسية، التي تجعل من السيطرة العسكرية تحصيل حاصل، وبالرغم من الحشد الروسي شمالي سوريا الذي يشير إلى انسداد في المسار التفاوضي بين أنقرة وموسكو، يعتقد الباحث فراس فحام أن ذلك لا يعني بالضرورة إلغاء العمليات العسكرية التركية، فمن الممكن أن "نشهد متغيرات في أي لحظة، وقد تعودنا في المشهد السوري على سيولة كبيرة، وتبدلات مستمرة"، مؤكداً أن "احتمالية العمليات العسكرية في منطقة تل رفعت وما حولها ما تزال قائمة، في حال تم ترتيب الأجواء السياسية".