قراءةُ تاريخ سوريا المعاصر خلال قرن من الزمان ممتعة بحد ذاتها، وتزداد متعتُها أكثر عندما نتوقف عند كل واحدة من المحطات المهمة، ونُعمل عقولنا فيها ونطرح أمامها تساؤلاتنا بشجاعة، منطلقين من مقولة المتصوف العباسي "النفَّري" صاحبِ كتاب المواقف والمخاطبات: العلمُ المستقرُّ جهلٌ مستقر.
ملاحظة 1: ذهب بعض الباحثين إلى أن كتاب "المواقف والمخاطبات" منحول ولكن هذا إن صح لا يهمنا، المهم هنا هو المثال الرائع عن العلم والجهل.
نجد أثناء مطالعتنا أحداثَ مختلف المراحل التاريخية أسماء تتردد على نحو مُطَّرد مثل شكري القوتلي وناظم القدسي وهاشم الأتاسي ورشدي الكيخيا وفارس الخوري وخالد العظم.. ونتساءل أنْ كيف بقي هؤلاء على قيد الحياة، واستمروا يعملون في قيادة الأحزاب السياسية وإدارات الدولة على الرغم من توالي الأيام وتقلب العهود وكثرة الانقلابات؟
ملاحظة 2: سنرى العجبَ العُجَاب عندما نقارن سيرتهم مع ما وصلت إليه سوريا فيما بعد، حيث نظام حافظ الأسد (ووريثه) يعتقل شخصاً ويخفيه ثم ينكر وجوده لديه كـ عبد العزيز الخير، ولا يكتفي باعتقال معارضيه وإخفائهم وقتلهم بل يغتال رجاله إذا شعر بخطورتهم أو ظهر له نقص في ولائهم، فيرغم الواحد منهم على الانتحار ببضع رصاصات في الرأس كـ محمود الزعبي وغازي كنعان أو يميتهم قَشّة لَفّة (بالجملة) بتفجير إرهابي مثلما فعل مع "خلية الأزمة" في 18 تموز 2012..
خذ، مثلاً السيرة الدراماتيكية للرئيس شكري القوتلي الذي صادفت ذكرى وفاته يوم الأربعاء الفائت (ولد سنة 1891، وتوفي يوم 30 حزيران 1967) وفيها أنه نجا خلال حياته من حكم الإعدام ثلاث مرات وحاول الانتحار ذات مرة في السجن لئلا يضعف ويعترف على رفاقه أثناء التحقيق وحمل لقب "أبو الجلاء".
ملاحظة 3: هذا اللقب بحد ذاته يدل على أن السوريين منذ خروج قوات الانتداب الفرنسي من سوريا، يتجنبون الحديث عن "الاستقلال" وقلما تجد بيننا من يناقش فكرة الاستقلال وهذا أمر غريب بالطبع.
أعطي شكري القوتلي، في سنة 1958، لقب "المواطن العربي الأول"، تكريماً له لأنه تنازل عن حكم سوريا للديكتاتور المصري جمال عبد الناصر.
ملاحظة 4: نلاحظ هنا أن العكس لم يكن ممكن الحدوث أي أن يتنازل جمال عبد الناصر لشكري القوتلي عن رئاسة الجمهورية العربية المتحدة، فالقوتلي رئيس محلي متواضع بينما عبد الناصر قائد الأمة العربية من الماء إلى الماء.
شكري القوتلي ابن عائلة حجازية (وفي رواية أخرى أن أصل العائلة من العراق)، استوطنت دمشق أواخر القرن 19. درس اللغة الفرنسية في مكتب عنبر الذي اشتراه الوجيه اليهودي يوسف عنبر من عمه مراد القوتلي. وفي سنة 1908 التحق بـ "المعهد الشاهاني الملكي" بإسطنبول الذي يعتبر من أرقى مدارس العاصمة العثمانية، وعندما تخرج سنة 1913، عاد إلى دمشق حاملاً الشهادة العليا في العلوم السياسية والإدارية، وعمل موظفاً في مكتب الوالي العثماني، ولكنه استقال أو ربما أقيل لأنه لم يجر على عادة تقبيل يد الوالي بشكل يومي، وانتسب إلى جمعية "العربية الفتاة" التي كان هدفها تحرير البلاد العربية من العثمانيين، وفي سنة 1916 بايع الشريف حسين بن علي. (ضعوا إذا سمحتم خطاً تحت كلمة "بايع") وانخرط كما قالوا في الثورة العربية الكبرى..
ملاحظة 5: ما حصل بين عامي 1916 و1918، مع احترامي ليس "ثورة" ولا "عربية".. بل اتفاق بين الشريف الحسين بن علي والسير هنري مكماهون ممثل بريطانيا في مصر، الاتفاق نتج عن مراسلات ومباحثات طويلة تنص على أن يساعد الحسين الإنكليز بجيشه ونفوذه في طرد العثمانيين، مقابل إعطاء سلالته الحق في حكم سوريا والعراق إضافة إلى الحجاز، ليس لأنهم عرب فالعروبة في تلك الأيام لم تكن تشكل (لاحماً) لبناء دولة أو دول، وإنما لأنهم من (آل البيت).. هذه المعلومة وردت في كتاب يوسف الحكيم "سوريا والعهد الفيصلي" إذ كتب حرفياً: أعلن الحسين (الجهاد) ضد الأتراك مغتصبي الخلافة الإسلامية التي هي حق لأحفاد الرسول- صفحة 12.
وجاء في الكتاب ذاته أن العَلَم العربي الذي أتى به الأمير عبدُه، شقيق الأمير فيصل من مكة كان ذا أربعة ألوان هي: الأسود ويرمز للخلفاء الراشدين والعباسيين والأبيض يرمز للأمويين والأخضر للفاطميين، والأحمر للثورة العربية (ما سمي بالثورة العربية الكبرى).
شارك شكري القوتلي في حكومة الكتلة الوطنية الأولى عام 1936 بمنصب وزير الدفاع، مع أن اختصاصه الدراسي كان في العلوم السياسية وفي سنة 1943 انتخب رئيساً لـ "الجمهورية السورية"، التي زور حزب البعث اسمها لاحقاً فأصبحت "الجمهورية العربية السورية".
ومن المفارقات البارزة في سيرة شكري القوتلي أنه أيد في سنة 1909 جماعة الاتحاد والترقي التي كان يقودها أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، وأطاحت بالسلطان عبد الحميد الثاني، هذا الموقف منسجم بالطبع مع نزوعه نحو التحرر من الركود فالطورانيون (جماعة الاتحاد والترقي) كانوا قد أعلنوا دستورهم المشتق بشكل أساسي من مبادئ الثورة الفرنسية حرية- مساواة.. ولكن هؤلاء أنفسهم كانوا السبب بتركه العمل في ولاية دمشق، إذ رفض تقبيل يد جمال باشا وسُجن على إثر ذلك، وكان انتسابه إلى العربية الفتاة تحدياً صارخاً للطورانيين المتعصبين للقومية التركية مؤسسي جمعية "تركيا الفتاة" وزاد في عدائه لهم نغماً عندما (بايع) الشريف حسين.
ووقف شكري القوتلي إلى جانب الأمير فيصل الذي جاء يحكم سوريا بعد خروج العثمانيين (وكان هناك حاكم بريطاني في الظل)، ومنذ 1920 بدأ بمعاداة فرنسا ودعم الثورة السورية الكبرى 1925.. ومع أنه هو الذي شكل "حزب الاستقلال" حمل فيما بعد لقب "أبو الجلاء"، والفرنسيون عفوا عنه رغم كل شيء وسمحوا له بالعمل السياسي، فانضم إلى الكتلة الوطنية وبقي يتنقل في المناصب السياسية حتى صار شكري القوتلي الذي نعرفه.