بعد سبعة عشر يومًا فقط من قمة أستانا الأخيرة في طهران، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره فلاديمير بوتين مرة أخرى - هذه المرة في سوتشي. وبينما كان أردوغان يؤكد أن "العالم كان يراقب قمة سوتشي"، لفتت عناوين الصحف الدولية الانتباه إلى "الطبيعة السرية" لاجتماع الزعيمين المغلق.
وبعد أربع ساعات من المفاوضات، تم التوصل إلى اتفاق بين بوتين وأردوغان لتوسيع التعاون في قطاعي الاقتصاد والطاقة. وصدر بيان مشترك عقب الاجتماع أعرب عن "الحزم على تعميق العلاقات" في حين ظل مزيد من التفاصيل بشأن الاتفاق غير واضح.
ومع ذلك، كان الحديث عن تعزيز العلاقات الاقتصادية كافياً لإثارة الدهشة في الغرب، الذي حاول الضغط على الاقتصاد الروسي في أعقاب غزو أوكرانيا.
أجبرت العقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي منذ غزو بوتين لأوكرانيا روسيا على تحويل مسار مبيعات النفط وتسببت بهجرة جماعية للشركات متعددة الجنسيات.
على الرغم من ذلك بقيت تركيا تفاخر بنمو التعاون الاقتصادي مع روسيا، فعلى سبيل المثال أشار وزير النقل البحري التركي عادل قرايسمايل أوغلو إلى زيادة نسبتها 58٪ في تجارة السيارات مع روسيا في الأشهر الأربعة الأولى من العام كدليل على تنامي الخدمات اللوجستية في تركيا، كما يوضح المخطط النمو الكبير في التبادل التجاري بين تركيا وروسيا خلال عام 2022:
تعتبر هذه الطفرة في التبادل التجاري أخبارًا جيدة لحملة الرئيس رجب طيب أردوغان الانتخابية لزيادة الصادرات كجزء مما يسميه "نموذجًا اقتصاديًا جديدًا". لكنها ستحبط حلفاء تركيا في الناتو في الولايات المتحدة وأوروبا الذين حاولوا تشكيل جبهة موحدة لعزل الاقتصاد الروسي بعقوبات تعتبر الأقسى في التاريخ.
لم تفرض تركيا عقوبات على روسيا، بل عملت بدلاً من ذلك على موازنة علاقتها مع طرفي الحرب. تزود أوكرانيا بطائرات بلا طيار مسلحة بينما تشجع الاستثمار الروسي في الاقتصاد التركي وتدفق النقد الأجنبي الذي يولده.
بعد استضافتها محادثات في إسطنبول، توسطت تركيا في اتفاق لاستئناف صادرات الحبوب من موانئ البحر الأسود المحاصرة بسبب الحرب.
في هذه المقالة سوف نناقش المنافع المتبادلة بين الطرفين وفق اتفاق سوتشي الأخير والذي يشكل الاقتصاد محوره الأساسي وفق المعلن عنه حتى الآن والعواقب المترتبة عليه:
1- الشركات الروسية والبوابة التركية:
تشكل العلاقات بين تركيا وروسيا لغزا للكثيرين في الغرب بعد أن عانت العلاقات بين البلدين فترات من الاضطراب في علاقتهما الثنائية المعقدة على مر السنين، يبدو أن الافتقار إلى البدائل جعل أردوغان وبوتين في موقف أكثر توازناً على الأقل على المدى القصير.
فسر بعض المراقبين اجتماع سوتشي على أنه قمة "لزعيمين يواجهان صعوبات اقتصادية". يبحث أردوغان عن دفعة للاقتصاد التركي للتعافي قبل الانتخابات المقبلة. ومن ناحية أخرى، يسعى بوتين إلى إيجاد خيارات جديدة للالتفاف حول العقوبات الغربية.
تسعى الشركات الروسية بالفعل لاستئناف الأعمال التجارية مع أوروبا عبر تركيا لتجاوز العقوبات، ففي مارس الماضي، وافق الكرملين على "مخطط الاستيراد الموازي" لإزالة بعض السلع الاستهلاكية من نطاق العقوبات الغربية. فقد حولت آلية "إعادة التصدير" هذه في الأشهر القليلة الماضية، تركيا إلى مركز عبور مزدحم للبضائع المتجهة إلى روسيا.
حتى إن بعض الشركات الروسية فتحت مكاتب في تركيا للاستيراد الأولي للبضائع التي اشترتها موسكو من دول ثالثة لنقلها لاحقًا إلى الموانئ الروسية. حيث أشار وزير التنمية الاقتصادية الروسي مكسيم ريشيتنيكوف، إلى أن الحجم الإجمالي للمنتجات التي يتم إدخالها إلى البلاد في نطاق الواردات الموازية يبلغ حوالي 4 مليارات دولار.
2- تركيا وسوق الطاقة الأوروبية:
تصدّر بيان الرئيس بوتين في قمة سوتشي، والذي يشير إلى أن أوروبا يجب أن تكون ممتنة لتركيا لتدفق الغاز المستمر إلى أسواقها، عناوين الصحف التركية والأوروبية.
كانت هناك مناقشات حول دور تركيا المتنامي كمركز للطاقة البديلة بعد أن خفضت روسيا كمية الغاز المتدفق عبر نورد ستريم 1 إلى 20٪ من طاقته. على الرغم من الاعتراف بالأهمية المتزايدة لـخط أنابيب ترك ستريم وسط اختناقات الغاز في أوروبا، يشير المحللون إلى أن خط الأنابيب ليس لديه القدرة الكافية لتغطية احتياجات الطاقة في المنطقة بكاملها.
يمكن لتركيا بالفعل مساعدة الاتحاد الأوروبي على المدى المتوسط لتنويع إمدادات الغاز بعيدًا عن روسيا من خلال أن تصبح مركزًا لتصدير الغاز الطبيعي من أذربيجان وربما إيران، في حالة توقيع اتفاق نووي مع إيران وضمان استدامته بالمقابل سيتطلب من الاتحاد الأوروبي أن يلتزم بإبرام اتفاقيات شراء طويلة الأجل مع هذه الدول". الأمر الذي سيوفر لأنقرة مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة.
3- التبادل بالعملات المحلية:
وقال أردوغان للصحفيين على متن رحلته من سوتشي إنه اتفق مع بوتين على دفع جزء من ثمن الغاز المستورد من روسيا بالروبل، كما أن أنقرة ستتبنى خطط لتوسيع استخدام نظام الدفع الروسي MIR الموازي لنظام Swift.
ستساعد هذه الخطوة تركيا بشكل طفيف في تخفيف الضغط على سعر صرف الليرة الذي شهد تدهورا قياسيا خلال الشهرين الأخيرين، حيث وصلت إلى أدنى مستوى لها تاريخيا قرب 18 ليرة للدولار الواحد. كما ستساهم في تخفيف الطلب على الدولار والذي ارتفع بشكل كبير من شباط الماضي بسبب التخارج الكبير للدولار من أدوات الدين الحكومية في الأسواق الناشئة الناتج عن رفع الفائدة الفيدرالية من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
4- خطر العقوبات الغربية:
بعد اجتماع سوتشي، أعرب بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي عن مخاوفهم بشأن تعهدات أنقرة بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع روسيا. وقال مسؤول كبير لصحيفة فاينانشيال تايمز إن أعضاء الاتحاد الأوروبي "يمكنهم دعوة شركاتهم وبنوكهم إلى الانسحاب من تركيا"، من وجهة نظر سياسية تركيا ليست ملزمة باتباع قرارات الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الدور الحاسم الذي لعبته تركيا كوسيط بين كييف وموسكو، يحتاج الغرب إلى الحفاظ على حوار مستقر مع أنقرة نظرًا للتوترات الأخيرة الأخرى داخل أوروبا، كما لا يتوقع أن ترحب تركيا بالاستثمارات واسعة النطاق من قبل الأوليغارشية الروسية، من أجل عدم إعطاء الذريعة للغربيين لاستهداف الاقتصاد التركي بعقوبات قاسية.
الخلاصة:
يشكل الاقتصاد محور تحالف الضرورة بين روسيا وتركيا والذي يمكن أن ينتج عنه اتفاقات سياسية في أماكن أخرى تتقاطع فيها مصالح الطرفين، يحتاج الرئيس التركي إلى الاستثمارات الروسية لدعم الاقتصاد الذي يتعرض لأزمة كبيرة ناتجة عن ارتفاع التضخم وتآكل احتياطات المركزي التركي وتخفيض التصنيف الائتماني للديون السيادية التركية، في حين يحتاج بوتين للالتفاف على العقوبات الغربية وإحداث خرق في جدار التحالف الأطلسي من أجل فرض شروطه في السياسية عندما تصمت المدافع، فهل ينجح اتفاق سوتشي في تحقيق المنافع المتوقعة منه أم يكون لعبة محصلتها صفر؟