بين الانتماء الطبيعي الجغرافي المحدد بـ 90% منها في آسيا، والباقي في أوروبا، والمتغيرات الحادة في السياسة الدولية وتحديث طبيعة تحالفاتها العصرية؛ تعيش تركيا اليوم تباينًا بين تجاوز الحدود الطبيعية إلى المعادلات الجيوبوليتيكية الدولية، خاصة التي فرضتها السياسات الروسية الجيوبوليتيكية وفتح بوليفار روسيا الكبير المحدد بعنوان أوراسيا، حسب منظرها الأكبر ألكسندر دوغين.
تدويل المسألة السورية، واتضاح النزاع حولها بين الحلول الأممية عبر مجلس الأمن والشرعية الدولية وحلول الطريقة الروسبوتينية بالقوة العسكرية المباشرة. فروسيا تريد فرض الهيمنة على موقع متقدم على المياه الدافئة الجنوبية في البحر المتوسط، وتأمين الطرق البرية الواصلة إليها، وتوسيع المحيط الحيوي لموسكو، قلب الأوراسية، بغية وصل أوروبا وآسيا سياسيًا واقتصاديًا في مواجهة الأطلسية وحلف الناتو؛ ما أثر على المسألة السورية ومنها على السياسات التركية وبدء تغيرها التدريجي، أو لنقل الانزياح، عن صفرية مشكلاتها لتصبح محطة وعقدة دولية جيوبوليتيكية بين طرفي قمة النزاع العالمي المعنون بين أوراسيا والناتو. فهل تنزاح كلية للأوراسية سياسيًا؟ مع التأكيد على أنه وقبل أي تحليل سياسي ممكن، أن أهم قواعد الجيوبوليتيك التغير الآني والسريع وفق المصالح دون قيود الإيديولوجيا، ومرحلية الأهداف المتحققة.
تستمر المعوقات الأميركية بشكل أكبر أمام عمليتها العسكرية المزمعة شرق الفرات ضد قسد، ومع هذا ما زالت عضوًا في الناتو
في تتبع المتغيرات الحادثة في السياسة التركية دوليًا يمكن تحديد ما يلي:
- لم تستطع تركيا الحصول على دعم حلف الناتو كليًا، وخاصة أميركيا، في سعيها لإقامة منطقة آمنة شمالي سوريا لتحافظ بها على محيطها الحيوي وأمنها القومي من مجريات الحدث السوري قبل التدخل الروسي العسكري المباشر. بعد العام 2016 ومحاولة الانقلاب التركية الفاشلة، اُتهم فيها أميركيون بدعمهم لفتح الله غولن فيه، نتج عنه خلاف بيني أدى لسحب بطاريات باتريوت من قاعدة أنجيريليك لحلف الناتو، وتحويل الاهتمام عنها ناحية العديد القطرية. واليوم تستمر المعوقات الأميركية بشكل أكبر أمام عمليتها العسكرية المزمعة شرق الفرات ضد قسد، ومع هذا ما زالت عضوًا في الناتو.
- فشلت المحاولات التركية مرارًا في قبول انضمامها للاتحاد الأوروبي منذ العام 1963 ولليوم. تقدمت هذه الخطوات بشكل ملحوظ قبيل تأسيس الاتحاد الأوروبي في عام 1993 ورُد الطلب وقتها من المفوضية الأوروبية معتبرة أن تركيا تعاني نقصًا كبيرًا في الديمقراطية، وتدخّل كبير للعسكر في الحياة السياسية، ما يجعلها كثيرة الانقلابات العسكرية وغير مستقرة سياسيًا، وذات حقوق منقوصة للأكراد. ورغم قبول تركيا بلجنة تحقيق أوروبية في مذابح الأرمن عام 2015، وإجراء تغيرات كبيرة في هيكلية الجيش، لكنها لليوم لم تنل العضوية الأوروبية والتفاوض ما زال مستمرًا لليوم بين حدي الاستيعاب والحاجة الأوروبية لتركيا والعكس.
- في المقابل بدأت روسيا تقديم مغريات التحول لأوراسيا من جهات متعددة، كتمرير خط سيل الغاز من أراضيها بدل أوكرانيا عام 2014، وتسهيل المبادلات الاقتصادية وتشجيع السياحة، تقديم منظومة S-400 بديلًا عن باتريوت، والاشتراك الثلاثي الروسي الإيراني التركي في محطات أستانة الماراثونية منذ 2018 لليوم في طريقة الحل السورية روسيًا. والنقطة الأبرز في هذا هي الفاعلية التركية في هذه المباحثات خاصة أنها بجوار الشمال السوري وعلى تخوم شمال شرقي الفرات. والأكثر وضوحًا فيها أن أستانة تشكل محطة متقدمة في وصل آسيا بأوروبا عبر بوابتي إيران وتركيا المفتاحيتين في المسألة السورية.
- تاريخيًا توجد نزعة تركية تعبر عن اعتدادها بالانتماء لأوراسيا طبيعيًا، ولكن تحولها لمتغيرات سياسية واضحة كان ضعيفًا بداية. فرغم وجود تيار كبير في البيروقراطية التركية يدعم هذا التوجه أهمه حزب الوطن المعارض ورئيسه دوغو بيرنشك، وعلاقته بألكسندر دوغين، لكن يقابلها المعارض أيضًا فتح الله غولن المنحاز كلية للأطلسية الغربية وهو المتهم الأول بمحاولة الانقلاب الفاشلة، ما زاد في دلالات على تنامي الأوراسية على مستوى السياسة الرسمية التركية بعدها.
الخارجية التركية لم تتوانَ عن التصريح دائمًا بأهمية دورها في المعادلة الاوراسية، فوزير خارجيتها السابق أحمد داوود أوغلو، في العام 2014، صرح مرارًا وخلال مؤتمر وزراء خارجية أذربيجان وتركمانستان المتكرر كل سنتين، عزم الدول الواقعة في قلب أوراسيا العمل على المساهمة في إحلال السلام العالمي. فيما كان مجموع التحولات في السياسة التركية الاقتصادية والمالية ذاهبة للتركيز على الشراكات الآسيوية ومدخلها لأوروبا هي ذاتها. فنفذت نفق أوراسيا الذي يربط إسطنبول الآسيوية بالأوروبية، مع تزايد الاهتمام بالشراكات الآسيوية خاصة مع الصين وجنوب آسيا.
خطوات الانزياح التركي ناحية الأوراسية تبدو أكثر وضوحًا في طريقة حل المسألة السورية، إذ تأخذ خطوات التنسيق الحالية الرسمية التركية والسلطة السورية برعاية روسية
فحديثًا وفي الصيف المنصرم، وعلى هامش لقاء شراكة الحوار القطاعي بين تركيا ورابطة "آسيان" بنسخته الرابعة المنعقد في كمبوديا، أفاد وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو: "نحن نعيش مجددًا عصر آسيا، كان هناك العصر الأميركي والآن يمكننا القول إننا انتقلنا مجددًا إلى العصر الآسيوي"، مشيدًا بحجم استثمارات آسيان المقدرة بـ 10.3 مليار دولار في تركيا، مقابل 471 مليون دولار للاستثمارات التركية فيها. كما وتُدرك أنقرة تمام الإدراك أن الغاز سيحدّد مستقبل تركيا الاقتصادي ودورها كمركز للطاقة إلى جانب روسيا في المعادلة الدولية وشكل تحديد مستقبل القوى العالمية ومحاورها، الأمر يزيد من تقاربها الروسي على حساب الأوروبي.
خطوات الانزياح التركي ناحية الأوراسية تبدو أكثر وضوحًا في طريقة حل المسألة السورية، إذ تأخذ خطوات التنسيق الحالية الرسمية التركية والسلطة السورية برعاية روسية، مسارًا مخالفًا للتوجهات الأميركية في ذلك. فرغم التصريحات التركية الرسمية بالالتزام بالحل السوري وفق 2254، إلا أنها تصريحات وزير خارجيتها جاويش أوغلو تتجاوزها للتنسيق المباشر مع روسيا التي تحاول جاهدة ترسيم الحل وفق مصالحها الجيوبوليتيكية ومن ثم فرضه أمميًا بقوة وقائع الأرض. وهي النقطة الأوضح في السياسة الروسية الحديثة في المعادلات الدولية: فرض الواقع عسكريًا ثم التفاوض بعده.
ربما تكون تركيا ذاهبة للتحالف العضوي مع روسيا أوراسيًا، لكنه احتمال زائد غير نهائي لليوم، خاصة وأنها لا ترغب أبدًا بعداء أوروبا والناتو. فهي الواقعة بين جملة معقدة من المشكلات الدولية تحاول استعادة سياستها الصفرية دون مشكلات، سواء دوليًا أو حتى في الداخل التركي لتجنب أي محاولة انقلاب جديدة ولكسب انتخاباتها القادمة. ما يرجح تمايز سياساتها الخارجية بعنوان: "لا شراكة ولا عداء كليا"، تخدمها في تنفيذ خياراتها السياسية بحلول جزئية عسكرية وملفات تفاوضية سياسية كبرى، مرشحة سياسة الأمر الواقع على جميع أطراف المعادلة الدولية في الشرق الأوسط، ذات السياسة الروسية وكأنها تنتقل بالعدوى، وبخطوات محسوبة في المنظومة الأوراسية مقابل حفاظها على عضوية الناتو، فهل تستطيع الاستمرار؟
سؤال تفيد فيه قواعد الجيوبوليتيك المتغير، فمستويات الحلول المتاحة أمامها محدودة ودون مستوى الاتساع والوضوح الجيوبوليتيكي الروسي أو القطبية العالمية المنفردة الأميركية، مع محاولة استمالة كلا الطرفين لها. لكن الواضح فيها التخلي التركي عن التحالفات الإيديولوجية أو العقائدية، التي تفترضها شريحة واسعة من السياسة السورية على طرفي النقيض معارضة وسلطة: شريك كلي أو عدو كلي. في حين الشعب السوري ما زال محط نزاع جيوبولتيكي كبير قابل لتغير محاوره سريعًا، وآثاره الكارثية مستمرة سواء انتمت تركيا إلى أوراسيا عضويًا أو بقيت محطة من محطات سياستها الخارجية.