بعد محاولات الانفتاح العربي على نظام بشار الأسد والتي بدأت منذ عدة سنوات، قبل أن تكتسي صفة رسمية في أيار/ مايو العام الماضي بانعقاد اجتماع وزراء الخارجية العرب وصدور بيان عمان، حاول النظام في دمشق إعطاء انطباع بأنه في صدد إجراء إصلاحات في بنيته المتآكلة، وإعادة هيكلة أجهزته ومؤسساته، بما يستجيب للمطالب العربية والدولية، بضرورة أن يقوم النظام بتغيير سلوكه، كشرط لمواصلة هذا الانفتاح، بما يقود في المحصلة، إلى التمكين للعملية السياسية، وإرساء حلول للأزمة السورية، لا تكون بعيدة عن القرارات الدولية ذات الصلة.
وفي هذا الإطار، جاءت التسريبات المتعلقة بإصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها، والتي كانت في الحقيقة عبارة عن إعادة تدوير لهذه الأجهزة، عبر تنقلات للأشخاص تنزاح للموالين لروسيا على حساب الموالين لإيران، أكثر منها إصلاحات حقيقية، تمس جوهر هذه الأجهزة، وطريقة عملها، المعتمدة منذ عقود على العنف والبطش ومحاولات ترهيب المجتمع.
لا يختلف الأمر عند الحديث عن "الإصلاحات الاقتصادية" والتي هي في المحصلة محاولات من عائلة رئيس النظام للهيمنة على كل المصادر المدرة للدخل، عبر تدوير الفاعلين الذين يدورون في فلك النظام.
ولا يختلف الأمر حين نتحدث عن التغييرات الأخيرة في حزب البعث الذي يوصف بالحاكم، رغم أنه مجرد مطية لعبور الانتهازيين إلى مؤسسات النظام وقيادتها. وفي الوقت نفسه، فإن إصرار بشار الأسد على تكرار عبارة "الحزب الحاكم" خلال الاجتماعات الحزبية الأخيرة، يتناقض مع التعديل الدستوري الذي قام به النظام عام 2012 بإلغاء المادة الثامنة من الدستور وشطب عبارة "الحزب القائد للدولة والمجتمع" واستبدالها بعبارة "النظام السياسي للدولة يقوم على مبدأ التعددية السياسية وتتم ممارسة السلطة ديمقراطيا عبر الاقتراع".
وهذه التناقضات، تلخص المأزق الذي يراوح فيه النظام، بسبب رفضه العميق إجراء أية إصلاحات جوهرية في طريقة الحكم، والقائمة منذ عقود على الاستئثار والتفرد بالسلطة، واعتماد القمع والتدجين والاستزلام، كأساليب وحيدة لمواصلة السيطرة على المجتمع، ومصادرة الحياة السياسية، لصالح النظام وحده.
وكذا الأمر في انتخابات "مجلس الشعب" التي أعلن النظام أنها ستجري في منتصف يوليو/تموز المقبل، والتي من الواضح أنها لا تخرج عن الحلقة المفرغة العقيمة التي يدور فيها النظام، ومؤداها أنه غير قادر على إطلاق حركة المجتمع، وإصراره على الإمساك القسري بكل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية، دون أن يتيح لأية مؤسسة أخذ دورها، بما يشكل بعض التوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والتي يستحوذ رأس النظام على معظمها، دون أن توجد في البلاد مؤسسة واحدة يمكن أن تسمى مستقلة، ويمكنها القيام بدور خارج إطار التوجيهات الرئاسية والأمنية والحكومية، والتي تدور جميعاً في فلك واحد.
ولا يختلف الأمر عند الحديث عن "الإصلاحات الاقتصادية" والتي هي في المحصلة محاولات من عائلة رئيس النظام للهيمنة على كل المصادر المدرة للدخل، عبر تدوير الفاعلين الذين يدورون في فلك النظام، واستبدال من انتهت صلاحيتهم على غرار رامي مخلوف، بوجوه جديدة، بينما ينغل الفساد وسوء الإدارة فيما تبقى من مؤسسات الدولة.
أصاب الكثير من السوريين حين قالوا منذ عام 2011 إن هذا النظام غير قابل للإصلاح.
ومن الواضح أن هذه الترقيعات التي يريد نظام الأسد تصديرها للخارج قبل الداخل، على أنها إصلاحات سياسية، لم تقنع أحداً، لا في الداخل ولا في الخارج، حيث جرى تأجيل انعقاد اجتماع "لجنة المتابعة العربية" المنبثقة عن اجتماع عمان مرات عدة، بينما تراجعت وتيرة التطبيع العربي مع النظام، بعد أن لمس الجميع عدم جديته في الاستجابة لمطالبهم بإجراء إصلاحات حقيقية، تتقارب مع القرارات الدولية ذات الصلة، في حين يريد النظام تصدير تحركاته وحركاته على أنها إصلاحات، بل يريد الالتفاف على القرارات الدولية الخاصة بالشأن السوري، والزعم أنه يقوم بنفسه بتنفيذ ما تنص عليه هذه القرارات، دون الحاجة لوجود طرف المعارضة، وعمل في هذا السياق، بالتعاون مع حليفته روسيا، على تعطيل اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، مقترحاً عقدها في دمشق، في كنف النظام، بينما يصور ما يسمى بالتسويات التي قام بها في العديد من المناطق التي شهدت حراكاً مناوئاً له، على أنها انفتاح من جانبه على المعارضة (الداخلية الوطنية بحسب توصيفه) دون الحاجة لأية تسويات مع المعارضة الخارجية التي يعتبرها عميلة للخارج.
لقد أصاب الكثير من السوريين حين قالوا منذ عام 2011 إن هذا النظام غير قابل للإصلاح، لأن بنيته على تضاد مع العمل السياسي السليم، حيث الهيمنة للجيش والأمن والطائفة والعائلة، ولا يمكن المس بأي من هذه المرتكزات، دون تعريض النظام نفسه لخطر جسيم، لذلك تظل كل الترقيعات هنا وهناك بعيدة عن هذا الجوهر، ولا يمكن تالياً أن تؤتي أوكلها.