ربما تكون تكملة لأعماله الكتابية عامة، وربما تكون تتويجاً لمسيرته الفنية الطويلة، لكنها تجربة جديدة من حيث بناؤها وسردها. "حليب الضحى" إطلالة طازجة للكاتب الفلسطيني، ابن مدينة القدس، محمود شقير.
يزعم غلاف الكتاب أن بين طياته قصصاً قصيرة جداً، لكنها قد تبدو رواية أو قصة طويلة مفككة، فيها سرد يلامس القصيدة النثرية والشعر، وخواطر صوفية وفلسفية. فيها أدب رحلات في ذاكرة المكان، وفيها تأريخ بصري وإدانات ناعمة لجرائم الاحتلال الصهيوني وتداعياته منذ ما قبل النكبة. سرد يشارك فيه الكاتبَ شخوصُ عمله وأسماؤهم الدالة عليهم في معظم الأحيان، وقرّاء العمل أيضاً.
تفكيك وهواجس
يقسّم الكاتب شقير عمله "حليب الضحى" إلى أربعة أقسام، ويفكك حكايات كل قسم إلى قصص قصيرة جداً، تتفرق تبعاً لعناوينها وصفحاتها، ولكن تجمعها كلها ظلال العائلة والأمكنة وتربطها هواجس الاحتلال والحرب. ويستهل القسم الأول باقتباس: "لا تخف من الكمال فإنك لن تدركه" للفنان السوريالي سلفادور دالي. ويسرد فيه البطل "قيس" بضمير الأنا، حكايته عن طلاق "نفيسة" له لأنه عقيم، وزواجه من ليلى وحبها له لأنه روائي ويحكي بهدوء كيف طار صوابه حين غرز ذاك المهووس آلته المعدنية بعين "ليلى".
ويتابع تفاصيل سرده عن علاقته بليلى وحبها له وتفهمها لعقمه. ومن ثم تأخذ ليلى عن قيس الروي، وتعرّف بالطريقة نفسها عن ذاتها واسمها، وتتابع الحديث عن حبها لقيس وتداعيات عقمه عليها وعلى علاقتهما الزوجية. ولكن لا تخلو الحكايات من الإشارة إلى أجواء الاحتلال كما في قصة (قلق) ص 16: "تنصاع لأوامر الجنود وتقف لتفتيش حقيبتها". وقصة (البرية) ص28: "ترصدنا كامريات المستوطنة القريبة".
ويتضمن هذا القسم أيضاً تعريف "محمد المنّان" الأخ الأكبر لـ قيس عن ذاته، وعن شغله في المقاهي وتسكعه في البارات وحياته العابثة، وزواجه اللاشرعي وعشقه لمريم المسيحية المقدسية. ولكن في حديثه تدوين مهم للذاكرة الشفوية ولذاكرة المكان في يافا كمدينة فلسطينية محتلة، وتأريخ للسجن الصحراوي عام 1962، وإشارة إلى سجون الاحتلال فيما بعد.
في هذا التفكيك المتعمد لتقسيم القصص إلى قصيرة جداً تبعاً لعناوينها، قد لا تحقق كل القصص جنسها الأدبي أو حتى تكتسب تسميتها، وقد تكتمل الحكاية بجزأين منفصلين كما في (نهدي الأيسر) ص 25 و(حمّى) ص 26، وقد تربط بعض النصوص خيوط متتالية تشكل في المحصلة حكاية واحدة.
يفصل الكاتب القسم الأول عن الثاني بهامش يستهله باقتباس من الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا: "أنا ظل نفيس ذاتها؛ أبحث عن الظل". وتتخلل هذا "الهامش" كثير من الحوارات والمشاعر الرومانسية بين الزوجين، والمقولات والخواطر الشعرية والصوفية والفلسفية، ووصف جميل للفصول والطبيعة وتبدلات الطقس، والثلج والمطر. ومع ذلك لا تخلو أيضاً كل تلك الأجواء من استعادة لهواجس الاحتلال الصهيوني وتداعياته، كما في (نداء) وغيرها من النصوص: "..والجثامين المحتجزة في ثلاجات الأعداء؛ جثامين الشهداء تصغي بانتباه إلى النداء، نداء المطر".
لكن المفارقة أن هذه الهواجس المحملة بالإدانة الشديدة للاحتلال، والحاملة لفجائع وموت وقهر وقتل وسجن وأسر، تنساب بلغة رشيقة وجزلة وموحية ومكثفة، لكنها ناعمة ولا تختلف بمستوياتها ضمن مستويات السرد، رغم تنوع الشخوص والروي والأحداث والصور والمشاهد.
عقم وعشق
يستهل المؤلف القسم الثاني من كتابه بقول لـ جلال الدين الرومي: "بغير هذا الحب لا تكن". وفي هذا الاختيار لهذا الاقتباس الصوفي، إشارة واضحة من الكاتب عن عمق علاقات الحب بين شخوص عمله
يستهل المؤلف محمود شقير القسم الثاني من كتابه بقول لـ جلال الدين الرومي: "بغير هذا الحب لا تكن". وفي هذا الاختيار لهذا الاقتباس الصوفي، إشارة واضحة من الكاتب عن عمق علاقات الحب بين شخوص عمله رغم النقصان الذي قد تعاني منه.
ويتوزع الروي في هذا القسم بين "محمد بن منّان العبد اللات"، الأخ الأصغر لـ قيس، وزوجته سناء، وغيرهما من الشخصيات. فسناء التي حكم عليها جسدها بأّلا تظفر بنعمة الحبل وإنجاب الأطفال، يكون حب محمد لها أكبر من عقمها الذي تتابع تأثيراته على حياتها، ولكن برؤية مغايرة لرؤية ليلى، فالزوجتان تتقاطعان في مشاعر الحرمان من الإنجاب والغيرة والقهر والأمنيات، والتصورات حول الحمل والولادة والرضاعة والدورة الشهرية، واستجابات الجسد لتلك المتغيرات، والعواطف الخاصة بالأطفال، ولكن تختلفان بفكرة تبني الأطفال ورفضها وقبولها.
ففي الوقت الذي تغيب فيه فكرة "القسمة والنصيب" كمرجع ديني غيبي لأسباب العقم، تتبنى ليلى طفلة وتسميها "قدس" في حين تقول سناء: "لم أرغب في تبنّي أي طفل أو طفلة؛ لأن ّ هذا سيذكرني كل ّصباح وكل ّمساء بأن رحمي عاقر لا يجيد احتضان الأطفال".
واللافت في القصص أن الموقف العام من العقم يكون في كل الحالات مع المرأة، فكل عائلة محمد عامة، وأمه "وضحا" خاصة، تريد له أن يبقى مع زوجته سناء رغم عقمها، ونفيسة تطلق زوجها قيس لأنه عقيم، ومع ذلك تستمر العلاقة معها بشكل طبيعي، بل وتقوم بإرضاع "قدس" وتبني علاقة جيدة مع ليلى، وقيس وليلى، إضافة إلى الدلالة التاريخية للاسمين في قصص العشق، يكون الحب أكبر من العقم عندهما، وكذلك عند سناء ومحمد الصغير. وهذا يؤكد أيضاً بأن الكاتب شقير لا يبحث عن بطل نموذجي، ولا يتدخل في شخوصه ولا يؤطرها بمثاليات خارج الواقع، ولكن الكاتب شقير: رغم وجود حالات متباينة لعدم الإنجاب أو عدم استمراره، كـ محمد الكبير الذي لم ينجب أولاداً بسب وجوده في السجن، و"زهية" التي تنجب ولداً وتصير بلا رحم، ونفيسة التي يستشهد زوجها رشيد تاركاً لها وحيدها قيس، لا تفوته الإشارة إلى كثرة الإنجاب عند باقي الأهل والجيران وسكان الحي والمدينة، مسرباً ما بين السطور ذاك الانتصار الديمغرافي المستقبلي المتوقع.
واللافت في هذا القسم أيضاً، أن القارئ سيجده غير منفصل عن القسم الثالث رغم فصلهما باقتباس: "عندما أبكي بجوار زهرة، تنمو بوتيرة أسرع" للكاتب الروماني إميل سيوران، بل هو امتداد لبوح محمد الصغير عن حياته الخاصة بعودته عشر سنوات بالذاكرة إلى طفولته ومرضه بالسعال ورحلاته إلى أريحا ويافا والقدس، وكأنه يكتب سيرة ذاتية بدلاً من كاتب العمل، ومن قيس الذي سيكمل رواية "ظلال العائلة"، فهما لا يتحدثان عن طفولتيهما كسيرة ذاتية يتكئ عليها السرد والبناء الروائي، وتكون "الرواية داخل الرواية" عند قيس مجرد عبارات عابرة: "من روايتي: ظلال العائلة" وتحبه ليلى من أجلها، وينال إعجاب أخيه الصغير، وتشير لذلك سناء أيضاً حين تقول لـ محمد: "نحن مجرد شخصيتين خلقهما خيال أخيك الكاتب". لكن "الرواية داخل رواية" التي لا تكتمل عند قيس، تشي بوجود فنتازيا في السرد والبناء عند شقير، تثير فضول القارئ وتمنح للعمل خصوصيته.
حكاية عائلة
في القسم الثالث يحكي محمد الصغير ضمن تذكره لطفولته عن عائلته، فيعّرف بوالده منّان ووالدته وضحا، وصديقتهم فرحة التي يزورونها في أريحا، ويتحدث عن علاقته بالطفلة غدير في زياراته لبحر يافا. ويتخلل هذا القسم هامش يستهله الكاتب شقير باقتباس من الحلاج شيخ المتصوفين "أنا من أهوى ومن أهوى أنا" ويتحول بعده السرد إلى ما يتوسل الخواطر والقصيدة النثرية، ويحتفي به بالقدس المدينة والقدس الطفلة، وتكتنفه حوارات عشق وحب وغزل وصور أمكنة وتداعيات داخلية، وحِكَم وشهادات ووصف وأشعار وموسيقا ونشوة ورقص.
يبقى حرص الكاتب شقير على تدوين شهاداته قائماً عبر تسجيله لذاكرة المدن قبل وبعد الاحتلال
ولكن يبقى حرص الكاتب شقير على تدوين شهاداته قائماً عبر تسجيله لذاكرة المدن قبل وبعد الاحتلال: "القدس هي الأسيرات والشهيدات والطالبات اللواتي تخرجن في الجامعة" وتسطيره لشواهد يومية عن الاحتلال وتداعياته: "زوجات الأسرى على أبواب السجون.. امرأة من الحي المقدسي، ذهب أولادها الأربعة إلى المدرسة، الجنود الغرباء كانوا هناك بالمرصاد، الأولاد عادوا إليها وقد نقصوا واحداً".
القسم الرابع الذي يبدأ باقتباس "أجحدُ كل مخاوفي مقابل ابتسامة شجرة"، للكاتب الروماني إميل سيوران، يؤكد للقارئ من جديد أنها حكاية عائلة، حكاية عشيرة العبد اللات البدوية المكونة من الأب المزواج منّان وزوجته وضحا، وقيس وزوجته ليلى، ومحمد الكبير السجين، ومحمد الصغير وزوجته سناء، وقريبتهم نفيسة زوجة رشيد وابنهم قيس. وتتسلل إلى القسم قصة علوان العبد اللات وزوجته زهية وابنهما رهوان. علوان الخارج عن عائلته لأنه لا يريد أن يكون رقماً تحت سطوة كبيرها، يحب زهية بائعة ورق العنب ويتزوجها، وينجبا رهوان.. علوان يعمل مراسلاً في مؤسسة، واستأجر بيتاً في القدس، البيت تزداد الشقوق فيه من جراء الحفر الذي يقوم به المحتلون تحت القدس القديمة، وهي إشارة مهمة وتحذير علني من الكاتب لكل العالم عمّا قد يحدث للقدس القديمة.
هذا، ويحتضن القسم أيضاً تكملة لقصة قريبة العائلة نفيسة وزوجها رشيد والد قيس، عامل البناء الماهر النشيط الوطني الذي يرفض بناء أي بيوت لمستوطنين، ويعمّر للشباب الذين هدّم الاحتلال بيوتهم بيوتاً جديدة من دون أي مقابل، ويموت شهيداً مقابل مواقفه هذه.
حكاية العائلة هذه متناثرة بين قصص قصيرة جداً تتوزع على أكثر من مئتي صفحة، ويكون الكتاب بذلك أقرب إلى الرواية، ولكنه من حيث عدد الكلمات يكون أقرب إلى القصة الطويلة.
وفي كلا الجنسين الفنيين، يمنح التفكيك للعمل خصوصيته وطزاجته من حيث فنتازيا البناء والسرد، ومن حيث العلاقة الجديدة مع القارئ الذي يشارك في تجميع تلك القصص ليصل إلى الحكاية ككل وحبكتها ومغزاها، ولكن كل هذا السرد بتنوعات رواته، وكل هذه الأحداث بشخوصها، تتفاعل وتتحرك في "ظلال الأمكنة" التي ربما يشتتها أيضاً التفكيك، فهي قريبة من التوصيف بتفاصيلها الجميلة الحنونة والشاعرية أحياناً لكنها بعيدة عن حركة الشخصيات فيها، وتفاعلهم اليومي/ التاريخي معها. فالمشهدية غامضة في معظم الأحيان وإن ظهرت في الرحلة إلى أريحا أو حيفا، أو بزيارة الطبيعة أو الذهاب إلى المدرسة أو إلى أسواق القدس، وتبدو أقرب إلى لوحات وصور، أو لقطات الكاميرا في فيلم لتوثيق الذاكرة البصرية.
ينهي الكاتب شقير قصصه القصيرة جداً بهامش يستهله باقتباس "أدين بدين الحب أنىّ توجهت ركائبُه" لابن الرومي، ويكون هذا الهامش بمنزلة رتوش أخيرة على لوحة العمل الكلية،. رتوش لاستمرار الاحتفاء بالقدس المدينة والقدس الطفلة، وعلاقة الحب بين قيس وليلى، وصور وألوان وزهور وخيول وحب ودفء وأمومة وحرية وحياة مفعمة بالأمل.
كل النهايات مفتوحة، تتباين بين إثارة فضول القارئ وعدم وضوح توقعاتها وبين حيادية الكاتب والخصوصية الفنية للعمل. لكن تلك النهايات المفتوحة تمنح للعمل تجدده المستمر، فكل الشخصيات ما زالت هناك في القدس تعيش يومياتها وتدوّن ذاكرة مستقبلها، وتشتري نفيسة فستاناً مرشوقاً بألوان سوداء وحمراء وخضراء، لكي ترتديه في جنازات الشهداء، وحين تعود إلى البيت يفر من بين يديها ويتركها حائرة أمام المرآة.
العنونة وما بين السطور
في عجقة هذا الكم الهائل من العناوين، يبدو أنه لا بد من البحث عن العنونة والتناص من جهة، والعناوين ودورها في تفكيك العمل إلى قصص قصيرة جداً، والعناوين وعلاقتها بحبكة أو "رؤيا" كل نص من نصوصه من جهة ثانية، وعلاقة كل ذلك بالقارئ ودوره في المشاركة بتجميع الحكايات، وإدراك ما بين سطور العمل ككل.
لا يأتي عنوان (حليب الضحى) الجميل والموحي من أي تناص مع عنوان كامل لأي قصة أو مع اسم أي مكان أو أي حادث في العمل
لا يأتي عنوان (حليب الضحى) الجميل والموحي من أي تناص مع عنوان كامل لأي قصة أو مع اسم أي مكان أو أي حادث في العمل، يأتي من نص عنوانه "حليب"، وفيه تقول ليلى إنها سترضع الطفلة "قدس" التي تبنّتها حليب الضحى كي يحميها من الشرور، ولكن في الجو العام للعلاقة مع الطفلة، يكون فعل الرضاعة محوري فيه، وعند كل النساء المحرومات من هذا الطقس، وعند نفيسة مطلقة قيس التي تقوم بإرضاع الطفلة قدس أيضاً، وهي إيماءة لافتة للعشق والعقم. وقد تكون في ما بين السطور حالة عشق مستمرة لقيس رغم طلاقها منه بسبب عقمه.
وماذا عن عناوين القصص الأخرى والاقتباسات؟ وهل كل هذه العناوين ترتبط بشكل مقنع أو منطقي بقصصها أو بقصائدها النثرية أو نصوصها؟
يبدأ شقير كتابه بعنوان (إشارة)، وياليتها مجرد إشارة، بعد العنوان: "نظرت ليلى إليّ بعينها الباقية، ابتسمت وقالت: سنتبنى طفلة" وبعد هذه المقولة : "من روايتي: ظلال العائلة".
بهذا العنوان "إشارة" وما تلاه من عدة كلمات يشبك الكاتب القارئ بعدة خيوط، ويضعه أمام وهلة من الفضول والترقب، العائلة التي لن تنجب ستتبنى طفلة، والمقولة لبطل الرواية قيس الذي سيكتب داخلها رواية، تمد أيضاً خيوطاً مشوقة للسرد وفنتازيا للبناء. وعلى القارئ أن يتوقع ما بين السطور. وحين يتابع يجد الاقتباس "لا تخف من الكمال فإنك لن تدركه" للفنان السريالي سلفادور دالي وسيدرك فيما بعد أبعاد هذه الاقتباس ودلالاته وإشاراته إلى تركيبة الشخوص وعدم اكتمالها، ومن ثم سير الأحداث إلى هدفها المحدد ليكمل أو يوحي بما يفكر به الكاتب. ولكن هل في كل أقسام العمل يتحقق هذا الهدف؟ أو هل يستطيع القارئ ربط أبعاد الاقتباسات وأعماقها النفسية والفلسفية والصوفية بما يليها من سرد قصصي كان أم شعري؟
في القصة التي تحمل عنوان (يافا)، لا يدل العنوان كمكان على ما يريده الكاتب بين سطور قصته، فليلى المدنية المتحررة التي لاترتدي ثياباً داخلية تحت فستانها، تختلف عن مطلقة قيس، نفيسة البدوية، وتسبح معه في بحر يافا، في حين سنجد أن عنوان "ذلك الهش" مرتبط بخيوط متينة بكل مكونات القصة التي تحمله، والتعريفات النفسية والفلسفية والجمالية للحب، ذاك الهش الرصين المتين.. الحب الذي يجمع قيس وليلى.
ولو أخذنا عنوان (لؤم) سنجده مرتبطاً بكل القصة، بل بكل المجموعة وبالكاتب أيضاً، فقيس يقول: ".. لماذا أوقعت ليلى في حبائلي وأنا أعلم أنها كانت راغبة في إنجاب الأطفال؟! كان علي أن أخبرها منذ البداية بأن ارتباطها بي سيحرمها من الإنجاب. كنت لئيماً؛ لكني كنت متيماً بحبها، وهذا قد يغفر لي". ربما في ما بين السطور الحب يغفر لقيس، ولكن من سيغفر للذي أفقد ليلى عينها؟ ولماذا لم يحاسب من فعل ذلك؟ ولماذا لم تكتمل القصة بوضوح؟ هل هي مقايضة من الكاتب، مقابل عقم قيس تصير ليلى عوراء؟ وحتى في القصة التي تليها وتحمل عنوان (خوف) يكون العنوان أصغر من الحالة بكثير، والحالة تعّبر عنها لغة باردة لا تختلف عن غيرها من المستويات اللغوية في كل المجموعة، "حين غرز ذاك المهووس آلته المعدنية في عينها طار صوابي". فقط طار صوابه، وبعد ذلك صار يخاف عليها من كل نسمة.
وقد يكون العنوان مجازياً، وخارج المعنى القاموسي والاصطلاحي للكلمة، مثل عنوان (هديل) الصوت الذي يقوم فيه عادة ذكر الحمام، يكون في القصة هديل البنات الذاهبات إلى المدرسة في صباح هادئ قد يعكره هدير الطائرات.
وبشكل عام تتنوع العناوين في المجموعة بين التعبير عن حالة نفسية ما، مثل القلق والندم والحب والخوف، وعن جميع الأزمنة كالليل والنهار وفصول السنة، وعن الطبيعة بأسماء وأصوات وتجليات مكوناتها وكائناتها، والأمكنة والمدن والناس وعلاقتهم بالحياة.
ومن هذه العناوين ما تعّبر بوضوح عن مضمون النص الذي يحملها، ومنها ما تشكل تناصاً مع مكون من مكوناته، ومنها ما يرتبط بكلمة أو اسم أو موقف عابر.
وثمة اقتباسات يتلمس القارئ دلالاتها داخل النصوص، واقتباسات تظل غامضة أو بعيدة، ومن كل ذلك استطاع الكاتب محمود شقير أن يضع للقصص القصيرة جداً في عمله، أكثر من مئتي عنوان دون تكرار لعنوان منها، ويختم بعنوان النقطة، الموحي والمناسب والمترابط مع كل خيوط النص، والنقطة تأملت الهوة التي تفصلها عن السطر الأخير، وقالت: كم هو فسيح هذا العالم!
الكاتب في سطور
محمود شقير؛ كاتب فلسطيني من مواليد جبل المكبّر، القدس(1941). يكتب القصّة والرواية. أصدر حتّى الآن سبعة وستين كتابًا، وكتب ستّة مسلسلات تلفزيونيّة طويلة وأربع مسرحيّات.
تُرجمت بعض كتبه إلى عدة لغات من بينها الإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة. شغل مواقع قياديّة في رابطة الكتّاب الأردنيّين وفي الاتحاد العام للكتّاب والصحافيّين الفلسطينيّين. حاز جوائز عديدة، من بينها جائزة محمود درويش للحرّيّة والإبداع 2011، وجائزة القدس للثقافة والإبداع 2015، وجائزة دولة فلسطين في الآداب 2019.
تنقّلَ بين بيروت وعمّان وبراغ، ويقيم حاليًّا في القدس.